وأفضل المواقف بلا نزاع هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم، الذي وسع هذه الألوان من اللهو، برغم ما يحمل في صدره من هموم الدعوة والأمة.
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخري.
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء.
وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام.
وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائض السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما خلقان لا أرضاهما لصديق
وقيل:
لا تمازح صغيرًا فيجترئ عليك، ولا كبيرًا فيحقد عليك!
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرّي عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر.
وقيل: المِزاح يُبدي المهانة، ويُذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
وقيل: احذر فلتات المِزاح، فسقطة الاسترسال لا تقال.
ولكن ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم نفسه بالنفاق: "يا حنظلة لو دمتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" [34]، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. [35]
والتحزق كما يقول الإمام الخطابي: التجمع وشدة التقبص.
وفي النهاية لابن الأثير: متحزقين: أي منقبضين ومجتمعين.
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. [36] وابن عمر هو من هو، في ورعه وجده وتشدده.
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين، وعبوسهم وتجهمهم الذي ذكره الأخ السائل، لا يمثل حقيقة الدين في شيء، ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه.
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام، أو لطبيعتهم الشخصية، أو لظروف نشأتهم وتربيتهم.
وعلى كل حال، لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس، يخطئون ويصيبون. فالإسلام حجة عليهم، وليسوا هم حجة على الإسلام، إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة.
تفسير النصوص الموهمة لخلاف ذلك:
وأما النصوص الدينية التي ذكرها السائل، والتي فهم منها من فهم: أن الإسلام يدعو إلى الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالى على لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) القصص: 76 لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، فقد قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) يونس: 58.
وقال صلى الله عليه وسلم: " للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه " متفق عليه. [37]
بل الفرح المراد هنا ـ كما يدل عليه السياق ـ هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلى نفسه، كما قال قارون عن ماله: (إنما أوتيته على علم عندي) القصص: 78 فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) غافر:75.
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب، ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد على أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة، وفيهم نزل قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) آل عمران: 188.
¥