بعد ذلك يقرر ابن سلام أن "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تَثْقَفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان. من ذلك اللؤلؤ والياقوت، لا تعرفه بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره. ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتهما بلونٍ ولا مَسٍّ ولا طرازٍ ولا وَسْمٍ ولا صفةٍ، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بَهْرَجها وزائفها وسَتُّوقها ومفرغها. ومنه البصر بغريب النخل، والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده مع تشابه لونه ومَسّه وذَرْعه حتى يضاف كل صنف إلى بلده الذي خرج منه. وكذلك بصر الرقيق، فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون جيدة الشَّطْب نقية الثغر حسنة العين والأنف جيدة النهود ظريفة اللسان واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمئة دينار، وبمئتى دينار. وتكون أخرى بألف دينار وأكثر، ولا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة. وتوصَف الدابة فيقال: خفيف العنان لين الظهر شديد الحافر فتىّ السن نقىٌّ من العيوب، فيكون بخمسين دينارا أو نحوها. وتكون أخرى بمئتى دينار وأكثر، وتكون هذه صفتها. ويقال للرجل والمرأة فى القراءة والغناء: إنه لَنَدِىّ الحلق طَلّ الصوت طويل النَّفَس مصيبٌ للَِّحن، ويوصف الآخر بهذه الصفة، وبينهما بون بعيد. يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له بلا صفة يُنْتَهَى إليها ولا علم يوقَف عليه. وإن كثرة المدارسة لتُعْدِي علي العلم به. فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به. قال محمد، قال خلاد بن يزيد الباهلى لخلف بن حيان أبى محرز، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: بأى شئ تردّ هذه الاشعار التي تُرْوَى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكرْ أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت. وقال قائل لخلف: إذا سمعتُ أنا بالشعر أستحسنه فما أبالى ما قلتَ أنت فيه وأصحابك. قال: إذا أخذتَ درهما فاستحسنتَه، فقال لك الصراف: إنه ردئ، فهل ينفعك استحسانك إياه؟ ".

فأما أن لكل ضرب من الصناعة والعلم متخصصيه الذين ينبغى الرجوع إليهم والتعلم منهم لما سبق من إنفاقهم العمر فى تحصيله فهذا مما لا يقبل المماراة، وعلى العين والرأس. ولكن أولئك المتخصصين لا يتنزل عليهم الوحى فلا ينبغى إذن أن يُسْأَلوا عن شىء مما يقولون أو يُرَاجَعوا فيه. كلا وألف كلا، بل كل ما يقولون يقبل المناقشة والأخذ والرد مع احترامنا لهم وتقديرنا لتخصصاتهم وما أنفقوا فيها من جهد ووقت ومال وأعصاب. ذلك أن العلم لا يعرف القول بأن بابه قد أُغْلِق بعد فلان أو عِلاّن، بل هو مفتوح دائما أبدا دون أن يقال إننا قد وصلنا فيه إلى الغاية التى ليس بعدها زيادة لمستزيد. وما دام الأمر كذلك فليس لأحد الحق فى الزعم بأن ما يقوله هو الصواب الذى لا صواب سواه، ومن ثم لا تصح مساءلته ولا مطالبته بالدليل اعتمادا على أنه ذو خبرة وأن كلامه لا يخرّ منه الماء. لا يا سيدى، نحن العلماء بشر يصيبون، نعم، ولكنهم كما يصيبون فكذلك يخطئون. وحتى حين يصيبون فإن صوابهم هذا ليس سوى خطوة على الطريق تحتاج إلى من يتابعها نحو الغاية، تلك الغاية التى لا تأتى أبدا رغم أن واجبنا هو السعى الحثيث نحوها وكأننا واصلون إليها يوما.

صحيح أن من العلماء والمتخصصين من يعتمد على الحكم الانطباعى ويكون هذا الحكم صحيحا فى كثير من الأحيان. لكن كيف نعرف أنه صحيح؟ نعرف ذلك بالمراجعة إلى أن ينجلى الأمر عن التحقق من أنه صواب. وأذكر أنى قلت لأحد الأطباء ذات مرة إن فلانا يشعر بأعراض السكر فى جسمه واضحة من نشف الريق وشدة العطش وكثرة التبول وما إلى ذلك، فكان جوابه أنه لا يكفى هذا كله، بل لا بد من تحليل الدم والبول لأن هذا هو المعيار الذى يصح الاعتماد عليه، أما ما يشعر به الشخص فهو شىء يُسْتَأْنس به، وقد يصح بعد ذلك، وربما لا يصح.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015