القصيدة التى وصلتنا، وهى تزيد عن ذلك زيادة كبيرة، كلها ماء واحد فى الروعة وغزو القلوب والاستيلاء منها على مكامن الشعور.

ثم أضاف، رحمه الله، قائلا: "وقد تداوله (أى الشعر الجاهلى) قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء. وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شئ منه، أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفى. وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء. فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه". لكنْ من ذا الذى قال إن الكلمة الأخيرة فى أى مجال من مجالات البحث العلمى قد قيلت وانتهى الأمر؟ لاشك أن للعلماء وزنهم واحترامهم لما عندهم من علم وتجارب وخبرات، لكن هل لا بد أن يكون ما أجمعوا عليه بالضرورة صحيحا؟ ألا يمكن أن يكون إجماعهم قائما على معلومات ناقصة أو مضللة لأن ظروف عصرهم لم تكن تسمح لهم إلا بهذا المتاح لهم، ثم تزداد تلك المعلومات بعد هذا أو يتوصل الباحثون إلى ما هو أصح مما كان معلوما منها فيغير ما كان مجمعا عليه؟ وكثيرا ما يحدث هذا فى العلوم الطبيعية، وهى أكثر انضباطا ودقة من علوم الأدب والنقد واللغة وما إلى ذلك، فما بالنا بتلك العلوم التى تقل بطبيعتها عن العلوم الطبيعية انضباطا وصرامة؟

إننى دائما ما أقول لطلابى غير متواضع إن ما أسجله فى مؤلفاتى وما أقوله فى محاضراتى رغم اطمئنانى له وتعبى فى التوصل إليه لا أستطيع أن أزعم له الصحة المطلقة، وإن كنت بوصفى بشرا من البشر أحب أن يوافقنى الناس على ما أقول، إلا أن الحق أحق أن يقال ويُتَّبَع، ومن ثم فإننى أتوقع أن يجىء بعدى من ينظر فى آرائى كما نظرت فى آراء السابقين ويرى فيها غير الذى أراه كما نظرت بدورى فيما تركه السابقون واختلفت معهم بشأنه. تلك هى سنة الحياة، وليس لأحد الزعم بأنه يملك الحقيقة النهائية مهما كان اعتزازه بنفسه وعقله ومعاناته فى الوصول إلى ما وصل إليه من علم. وعلى هذا نقول لابن سلام، رحمه الله وأكرم مثواه، إن هذا الإجماع الذى تذكره، سواء كان صحيحا أو متخيَّلا، لا ينبغى أن يمنع أى باحث من النظر فيما أجمعوا عليه أو من رأى شىء آخر غير الذى كانوا يرونه.

ثم هناك مسألة الأخذ من الكتب، فماذا فى ذلك؟ أليس المصير النهائى لأى علم هو تسجيله فى كتاب؟ قد يُرَدّ علىّ بأن القراءة فى كتاب من كتب تلك الفترة قد تكون مظنة الوقوع فى الخطإ، إذ لم تكن كلها مضبوطة ولا منقوطة. ولسوف أسلم بهذا، لكنى ألفت النظر إلى أن خشية ابن سلام ليست فى هذا الاتجاه، بل فى الانخداع بالشعر المنحول وتصور صحته، وهذا أمر آخر. ثم كيف ينتظر ابن سلام من كل قارئ أن يذهب بنفسه إلى البادية إن أراد جمع الشعر الجاهلى أو أحب الاستماع إليه؟ لقد ذهب قوم من قبل إلى البادية وجمعوا من شعرها ما جمعوه، أفلا بد من البدء من نقطة الصفر إلى الأبد؟ فأين التراكم المعرفى إذن ما دام علينا فى كل مرة أن نبدأ من جديد؟ لو أنه قال إن الرجوع إلى عالم من العلماء إلى جانب الكتاب حَرِىٌّ أن يكون أجدى لكان أفضل، أما الجزم بأنه لا يحق لأحدأن يأخذ من كتاب على الإطلاق فإنه يستدعى سؤالا فى غاية الأهمية، إذ لماذا الكتاب إذن إذا كان على المتعلم والعالم أن يبقى كل منهما كالطفل الرضيع لا يجوز له الانفطام عن ثدى أمه ولبنها؟ ومعروف أن كثيرا من البشر يقرأون آلاف الكتب طوال حياتهم، فهل يجب على كل منهم كلما طالع كتابا أن يبحث عن شيخ يقرؤه عليه، وإلا ما تعلَّم؟ وها نحن الآن قد اختططنا خطة أخرى، وهى الأخذ عن الكتاب مباشرة، فهل نحن يا ترى مخطئون لا نفهم شيئا فى العلم ولا فى طريقة اكتسابه؟ ثم ما القول فى الكتب التى وضعها علماء لا سبيل إلى الاتصال بهم زمانا أو مكانا، سواء كانت كتبا مؤلفة أومترجمة؟ هذا ما أردت قوله حين أشرت إلى أن ما أجمع عليه العلماء فى عصر أو ظرف معين لا يلزم سواهم بالضرورة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015