(محمد رسول الله. والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم , تراهم ركعا سجدا , يبتغون فضلا من الله ورضوانا , سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه , فآزره , فاستغلظ , فاستوى على سوقه , يعجب الزراع , ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)

إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع. صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة , حالاتها الظاهرة والمضمرة. فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: (تراهم ركعا سجدا). . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا). . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود). . (ذلك مثلهم في التوراة). . وهذه صفتهم فيها. . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل. . (كزرع أخرج شطأه) (فآزره). . (فاستغلظ) (فاستوى على سوقه). (يعجب الزراع). .: (ليغيظ بهم الكفار). .

وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [صلى الله عليه وسلم] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين: (محمد رسول الله). . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع.

والمؤمنون لهم حالات شتى. ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم , ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة. وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة. . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات , وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها. التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة.

إرادة التكريم واضحة , وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم). . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم , ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا. رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين. فهي الشدة لله والرحمة لله. وهي الحمية للعقيدة , والسماحة للعقيدة. فليس لهم في أنفسهم شيء , ولا لأنفسهم فيهم شيء. وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم , كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها. يشتدون على أعدائهم فيها , ويلينون لإخوتهم فيها. وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى , ومن الانفعال لغير الله , والوشيجة التي تربطهم بالله.

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم , هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: (تراهم ركعا سجدا). . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم. ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة , وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ; فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم , حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا.

واللقطة الثالثة مثلها. ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا). . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة. كل ما يشغل بالهم , وكل ما تتطلع إليه أشواقهم , هو فضل الله ورضوانه. ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.

واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم , ونضحها على سماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود). . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية , ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف. وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: (من أثر السجود). . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة. واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها. فهو أثر هذا الخشوع. أثره في ملامح الوجه , حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة. ويحل مكانها التواضع النبيل , والشفافية الصافية , والوضاءة الهادئة , والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا.

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة. إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ; ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: (ذلك مثلهم في التوراة). . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى , وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015