. فقال لها (ألا تأكلون) على سبيل الاستهزاء والسخرية فهي لا تعقل ولا تعلم فلا يمكن أن تكون معبودة، ووضع الطعام عندها من قبلهم دليل على أنها ليست صالحة للألوهية لأن الإله مستغن عن غيره .. فقال لها (مالكم لا تنطقون) استفهام للتحقير وقد خاطبها مخاطبة العاقل فأتى بميم الجمع .. وفيه دلالة على أن عابديها لم ينصرفوا عنها كلهم بل عندها من الحراس ما يقتضي أن يتكلم إبراهيم على هذه الأصنام بمثل هذا الكلام وإلا لو لم يكن عندها أحد لكان كلامه هذا لغوا لا فائدة منه ... (فراغ عليهم ضربا باليمين) كسرها بقوة بيده اليمنى لأنها هي آلة العمل غالبا وهي أقوى من اليسرىفي الغالب .. فجاؤوا ينتصرون لأصنامهم .. ولكن إبراهيم عليه السلام كان قويا في ذات الله فقال لهم موبخا (أتعبدون ما تنحتون) استفهام للتوبيخ والانكار والاستهزاء بهم .. هل يليق عقلا أن يكون المعبود مصنوعا لعابده؟! .. لايفعل هذا إلا أسفه السفهاء .. ولكن والعياذ بالله إذا أعمى الله بصيرة الإنسان لا يغنيه بصر العين .. فقد أقام عليهم الحجة والبينة بأنها لاتصلح أن تكون آلهة لأنها: لا تعقل، لا تنطق، لا تعرف ما ينفعها، لا تجلب لنفسها نفعا فلغيرها من باب أولى .. (فأقبلوا) الفاء للترتيب والتعقيب والسببية أي بسبب ما عمل إبراهيم بالآلهة أقبلوا إليه وهذا من شدة انتصارهم لآلهتهم!! .. ثم أنكر على أهل الباطل باطلهم عن طريق العقل (أتعبدون ما تنحتون) كيف تصنعونه ثم تعبدونه؟! .. أليس الأولى ومن الناحية العقلية أن يكون هذا المنحوت هو الذي يعبدكم؟! .. لكن عقولهم منتكسة فصار الأمر بالعكس .. ثم أقام عليهم الدليل على أن الله وحده هو الذي يعبد لأنه الخالق عزوجل (والله خلقكم وما تعملون) .. (فقالوا ابنوا له بنيانا) أي لأجله وليست اللام للتمليك فبنوا بنيانا وملؤوه حطبا (فألقوه) الفاء للمبادرة فأوقدوا لاحراقه نارا عظيمة ورموه بالمنجنيق لبعدهم عنها بسبب شدة حرارتها .. فألقوه في النار ولكن خالق النار قال للنار (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فلم تكن بردا شديدة البرودة فيهلك ولا حارة .. بل عكس ما أراد أعداؤه فكانت باردة مسلمة .. وما ذكر من أن النار في جميع أقطار الدنيا كانت في تلك اللحظة باردة فضعيف جدا مخالف للقرآن فقوله (يا نار) موجه للمقصود .. نكرة مقصودة أي تلك النار التي خوطبت فقط، فجعلهم الله الأسفلين وكان العلو لإبراهيم عليهم فخرج منها سالما وأكرمه الله بشيء لم يكن معهودا عند البشر وهو سلامته من النار التي ظنوا أنها ستحرقه!! ..

--------------------------------------------------------------------

فائدتان من كتاب (المستفاد من قصص القرآن) عبدالكريم زيدان:

1ـ لم يتأثر إبراهيم ببيئته الكافرة فقد بصره الله بالحق وهداه إلى التوحيد (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل) .. ولم ترهبه كثرة المبطلين بل بقي مستعليا عليهم وهذا بدا في قصة تكسير الأصنام ومحاجة قومه.ـ

2ـ لما لم ينفع جدال إبراهيم مع قومه ولم يؤثر فيهم قوله المدعوم بالحجة والبرهان والعقل السليم تحول إلى وسيلة أخرى وهي تكسير الأصنام وباشرها بنفسه مع علمه بما قد يلحقه من أذى وضرر ولكن كل شيء في سبيل الدعوة إلى الله يهون، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه قام بتكسيرها ليلفت الأنظار إليه وإلى دعوته فيجتمع الناس فيكون في هذا فرصة جيدة لأن يبين لهم بطلان وسخافة ما يقومون به من عبادة هذه الأصنام التي لم تستطع أن تمنع عن نفسها التحطيم والتكسير، وهذا ما حصل. ـ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015