فدَيتك ما شِبْتُ عن كُبرةٍ ... وهذي سِنِيٌّ وهذا الحسابُ
ولكن هُجِرتُ فحَلَّ المشيبُ ... ولو قد وُصِلتُ لعاد الشبابُ
فلِمَ لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس، ومَرَدة العالمَ في الشعر؟
وأنشدني أبو عبدالله المغلسي المراغي لنفسه:
غداةَ تولت عِيسُهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مُقلتِي أدّت حقوقَ وِدادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان، ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديقٌ لي:
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه ... نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا ... حنانيك بعضُ الشرِّ أهون من بعض (7)
إلى آخر ما قاله ابن فارس في رسالته الماتعة (8)؛ فرحمه الله، وأجزل مثوبته، وجزاه خير الجزاء كِفاءَ ما قدم للعلم والعربية.
وهكذا يتبين لنا بطلان المقولة المثبطة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً".
وصحة المقولة المُنهضة: "كم ترك الأول للآخر".
***************************************
(1) يعني به: أبا تمام: حبيب بن أوس الطائي.
(2) يشير إلى قول القائل: لو كنت .... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
(3) يشير إلى قول الفِنْد الزماني:
صفحنا عن بني ذُهْلٍ ... وقلنا القوم إخوان
فلما صرَّح الشرُّ ... وأمسى وهو عريانُ
ولم يبقَ سوى العدوا ... نِ دناهم كما دانوا
وفي الشر نجاة حيـ ... ـن لا ينجيك إحسان
(4) الإيطاء والإقواء: مصطلحان عروضيان يعدان من عيوب القافية؛ فالإيطاء: هو إعادة كلمة الرَّوي بلفظها ومعناها بعد بيتين أو ثلاثة إلى سبعة أبيات؛ وهذا مما يدل على قلة إلمام الشاعر بمفردات اللغة؛ إذ عليه ألا يكرر ألفاظ القافية.
والإقواء: هو اختلاف حركة الروي المطلق من الضم إلى الكسر، كقول النابغة الذبياني:
زعم البوارحُ أن رِحْلَتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غدِ
ولهذا يذكر أن النابغة لما نبه على هذا غيّر البيت إلى قوله:
.......................... ... وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ
(5) المُعاوِية: الكَلْبَةُ التي تعاوي الكلاب وتنابحها، وبها سمي الرجل، وربما أراد بذلك معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- فقد كان رجلاً أكولاً وقد قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا أشبع الله بطنك"، وقد عدَّ الإمام مسلم هذه الدعوة من جملة مناقبه –رضي الله عنه- لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أيما مسلم جلدته، أو شتمته، أو ضربته، فاجعلها صلاة وزكاة عليه"، ثم أعقبه بحديث معاوية "لا أشبع الله بطنك".
(6) في الأصل: "عاب".
(7) البيت لطرفة في ديوانه 48.
(8) انظر يتيمة الدهر للثعالبي 2/ 214_418، ومقدمة المقاييس 1/ 15 _ 20.
ـ[جمان]ــــــــ[18 Mar 2009, 06:34 م]ـ
لفتات تربوية رائعة من شيخنا الكريم ..
أجزل الله لك المثوبة ..