أرسل أيضاً أحد تلامذته وهو أبو عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة فأقرأ فيها حتى سنة 74 هـ، وقبله أقرأ فيها ابن مسعود رضي الله عنهم حتى أوائل سنة 30 هـ، وأقرأ أبو موسى الأشعري بالبصرة حتى سنة 44 هـ.
هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كان الناس يتوافدون عليهم بأعداد كبيرة يقرؤون عليهم. خذ مثالاً واحداً على هذه الكثرة: فقد ذكر الذهبي في (معرفة القرّاء الكبار) - وهو كتاب مطبوع في مجلدين - بأن حلقة أبي الدرداء بدمشق بلغت 1600 تلميذ يتلقون من أبي الدرداء رضي الله عنه , فكثر القراء وانتشروا في جميع الأمصار، وجاء أقوام وتلقوا عن هؤلاء أيضاً فصاروا كثرة كاثرة في ذلك الحين.
ومع كثرة القراء ما احتاجوا إلى تحديد عدد معين ينسبون القراءة إليهم، أويحصرون الأخذ و التلقي بهم، أو غير ذلك مما يتعلق بالتخصيص، فلما كثر تلامذتهم، وضعفت الهمم، وكثر القراء جداً، واتسعت دائرة الرواية، و تشعبت الأسانيد، وكثر الرواة احتاج الناس إلى ضبط هذا الباب حتى لا يختلط على الناس، فتفرغ عدد من كبار المحققين لتتبع الروايات والطرق والأخذ عن المتقنين وضبط القراءة. وَوُجِدَ من هؤلاء كثير، فهذا التتبع والاستقراء أبرز لنا عدداً من الأئمة تميزوا عن بقية القراء بكثرة الضبط والدقة والإتقان و الإمامة والأسانيد المتصلة، وهم في الأمصار المشهورة الحافلة بالعلم , وقد تقبّلهم الناس وتلقوا روايتهم بالقبول؛ لأنهم عرفوا ضبطهم وإتقانهم، فجاء علماء حاولوا أن ينتقوا أبرز هؤلاء القراء وأكثرهم ضبطا ودقة وإمامة وشهرة أيضا مع موافقتهم على أن إخوانهم أيضاً من الضابطين المتقنين قد لا يقلون عنهم في هذه الأمصار: في الحرمين مكة والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشام. فمكة فيها أئمة كبار , كعبد الله بن كثير، ومحمد بن عبد الرحمن بن محيصن، وحميد بن قيس الأعرج , وفي المدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبه بن نصاح، ونافع ابن أبي نعيم، وفي الكوفة يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، والأعمش، وحمزة بن حبيب الزيات،وعلي بن حمزة الكسائي، وفي البصرة عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي، وأبوعمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري، ويعقوب الحضرمي , وفي الشام عبد الله بن عامر اليحصبي، وعطية بن قيس الكلابي، ويحيى بن حارث الذماري، فكان الناس لا يترددون في إمامة هؤلاء وفي ضبطهم واتقانهم وقبول قراءتهم، ويتلقون عنهم القراءة بالقبول، ولهم شيوخ أعلام كالجبال يسندون إليهم، وتواترت الأسانيد عندهم، واستفاضت قراءتهم، فكان هؤلاء من الأئمة المشاهير في هذه الأمصار الحافلة التي هي أشهر ممالك الإسلام في ذلك الوقت.
فماذا حدث بعد ذلك؟ جاء بعض العلماء وقالوا: هؤلاء كثير أيضاً!! فلماذا لا نختار عدداً قليلاً محدوداً هم خلاصة وصفوة هؤلاء، ونجمع قراءتهم في كتاب واحد، وتُعرف هذه القراءة بنسبتها إليهم؟ فجاء عالم من علماء القراءة يقال له أبو بكر بن مجاهد التميمي البغدادي، وهو من أئمة القراء توفي سنة 324 أي في أوائل القرن الرابع. فجاء أبن مجاهد متأخرا ورأى الناس ينقلون عن هؤلاء الأئمة الكبار ويقرؤون بقراءتهم، فاختار من هؤلاء أبرزهم، فصنف كتاباً مطبوعاً موجوداً بين أيدينا الآن يسمى (السبعة) , فاقتصر فيه على سبعة من هؤلاء الكبار، هم نافع, وعبد الله بن كثير، وعبد الله بن عامر، وعاصم بن أبي النجود، وأبو عمرو بن العلاء. وهؤلاء من الأمصار الخمسة التي هي مكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشام, وزاد عليهم حمزة بن حبيب الزيات، وعلي الكسائي من أهل الكوفة. فكان كتاب ابن مجاهد (السبعة) هو أول كتاب يقتصرعلى السبعة، فأول من سبّع السبعة أبو بكر بن مجاهد.
¥