ولما نزلت آيات التحريم هذه , في سنة ثلاث بعد وقعة أحد , لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:"ألا أيها القوم. إن الخمر قد حرمت". . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها , وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه. . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر!

والآن ننظر في صياغة النص القرآني ; والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه:

(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين)

إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع:

(يا أيها الذين آمنوا. .

لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ; ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى. . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر:

(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. .

فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله. وهي من عمل الشيطان. والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه!

وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق:

(فاجتنبوه لعلكم تفلحون) ..

ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس:

(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر, ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة .. ) ..

بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه. . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد (الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة). . ويالها إذن من مكيدة!

وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته. فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس. فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات. والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور. . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة!

وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر. . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح!

وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا) وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع:

فهل أنتم منتهون؟

فيجيب لتوه: "انتهينا. انتهينا". .

ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير:

(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا. فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) ..

إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله: طاعة الله وطاعة الرسول .. الإسلام. . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول. . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف:

(فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) ..

وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين. .

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015