أو بتعبير آخر: لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد "الإسلام". . بعد الاستسلام. . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء. . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار. . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تحت عنوان:"انحلت العقدة الكبرى ": ". . انحلت العقدة الكبرى. . عقدة الشرك والكفر. . فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ; وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة. وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ; ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ; ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى. حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ; وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد. . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ; فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ; وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة ".

ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا. . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة , المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها , والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها.

لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي:

كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا. . .) فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [وهو المخمر] في مقابل الرزق الحسن. . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر.

ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع. إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ; ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع.

ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب , وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ; ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة. وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي. وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها.

ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة , وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:

عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء. فنزلت التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر , قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء , فنزلت التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى. .) الآية. . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ; ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ?) فدعي عمر فقرئت عليه فقال:"انتهينا. انتهينا". . [أخرجه أصحاب السنن].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015