وقد ارتضى ابن جرير في التأليف المنهج الأول؛ إذ كان يعتمد على هذه الروايات سواء قبلها هو أو رفضها، وقد ذكر ذلك في مقدمة تاريخه وكأنما يغري بنقده؛ يقول (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه) ثم ذكر أن بعض ما رواه من الأخبار عن بعض الماضين – ومنهم اليهود والنصارى وغيرهم – قد يستنكره القارئ ويستشنعه السامع ولا يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة؛ فهو قد نقل لنا كما نقل الرواة إليه، ولهذا أكثر الطبري في تفسيره الرواية عن المبهمين وروى كثيرا عمن لا يوثق بهم مع علمه بما فيهم وفي رواياتهم من الضعف، لكنه منهجه فماذا يفعل؟ ومعلوم أن أهل هذا المنهج قد فرقوا بين أسانيد الحلال والحرام وأسانيد غيرها من حيث التشديد والتساهل، ولهذا تساهل الطبري في الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب ما دامت لا تتعلق بالحلال والحرام.

وأرى أن هذا الإمام كأنه كان يظن أن ما سطره من علم سيؤول أمره إلى علماء نقاد حسب ما تقتضي طبيعة المنهج؛ ولهذا ينبغي للعلماء أن ينظروا في أمر هذه الإسرائيليات داخل كتب التفسير ويتشاوروا فيها وفي ما يفعلون من أمرها فيعلقوا عليها في الهوامش ويبينوا بطلانها على أقل تقدير أو يحذفوها ويعزلوها منفصلة لتداول أهل الاختصاص أو نحو ذلك

والحق أن كتب التفسير عموما قد تفاوتت في الأخذ بهذه الإسرائيليات قلة وكثرة ولم يكد تفسير من التفاسير القديمة ينجو من ذلك؛ يقول الدكتور محمد حسين الذهبي: (لا أكون مبالغاً أو متجاوزاً حدّ الصدق إن قلت إن كتب التفسير كلها قد انزلق مؤلفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات وإن كان ذلك يتفاوت قلة وكثرة وتعقيباً عليها وسكوتاً عنها)

ومعلوم أن "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير قد كان من أنقى التفاسير عن ذلك، ورغم أن صاحبه كان مؤرخاً - والمؤرخون الأقدمون يتساهلون في قبول الأخبار – إلا أنه كان متشدّداً تجاه الإسرائيليات، وكان ناقداً متميزاً لها، ولأجل ذلك حمل على رواتها وعدّها عبثاً لا فائدة ولا طائل منه، إلا إنه رغم ذلك قد انزلق داخل تفسيره في موضعين فقط إلى رواية هذه الإسرائيليات دون أن يعلق عليها؛ وذلك أنه ذكر أن الله بعث إلى النمروذ ملكاً يأمره بالإيمان بالله؛ فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها.

، وكذلك ذكر رواية عن وهب ابن منبه وهي أن موسى لما ألقى عصاه على وجه الأرض صارت ثعبانا عظيما؛ فدبّ يلتمس كأنه يبتغى شيئًا يريد أخْذَه، يمر بالصخرة مثل الخَلِفَة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحْجَن منها عُرفًا. وقيل شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع، فيه أضراس وأنياب، لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا ولم يُعَقِّب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجَز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى أنْ: ارجع حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف

، ولما كان تفسير ابن كثير قد اقتصر على ذلك فحسب فقد عدّ من أنقى التفاسير عن هذه الإسرائيليات.

أما التفاسير التي أكثرت من الإسرائيليات فهي:

1 - تفسير الثعلبي:

كان الثعلبي قاصاً مولعاً بالإسرائيليات والخرافات والأباطيل، وقد ضمن كتابه (العرائس) الذي ذكر فيه قصص الأنبياء كثيراً من هذه الإسرائيليات، وكان حاطب ليل لا يبالي ما يأخذ، ولأجل ذلك امتلأ تفسيره بالإسرائيليات والأساطير والخرافات والمناكير، ويعدّ تفسير الثعلبي من أشهر التفاسير في ذلك.

يقول ابن تيمية (في تفسير الثعلبى الغث والسمين فإنه حاطب ليل)

وكتاب الثعلبي "عرائس المجالس" كما لاحظت يتندر به النصارى اليوم في مواقعهم بالانترنت ويطعنون به في القرآن كأنما جاءت هذه الإسرائيليات من كتب غيرهم

2 - تفسير معالم التنزيل للبغوي:

تفسير البغوي من التفاسير المشهورة برواية الإسرائيليات والأساطير، وهو مختصر لتفسير الثعلبي.

3 - تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن:

إذا كان تفسير البغوي مختصراً لتفسير الثعلبي فإن تفسير الخازن هذا كان مختصراً لتفسير البغوي، وليس ذلك فحسب؛ بل كان الخازن يرجع إلى الثعلبي إذا أهمل البغوي بعض الإسرائيليات فيأخذها من الثعلبي فيزيد تفسيره من هذه الأباطيل، وقد عزا الخازن كثيراً من الإسرائيليات التي نقلها إلى الثعلبي مباشرة، وقد كان الخازن قاصاً واعظاً متصوفاً.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015