ويقول سيد قطب: (هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثلها). وقال القاضي أبو بكر (إنما جاءت على نصف حروف المعجم كأنه قيل: من زعم أن القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن، وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق)

ولما كانت ألفاظ العرب التي نزل عليها القرآن مكونة من حرف وحرفين وثلاثة أحرف وأربعة وخمسة لا أكثر، فقد جاءت تلك الحروف الاستفتاحية كذلك؛ إذ أن منها ما جاء على حرف نحو:

(ص، ن، ق)

ومنها ما جاء على حرفين نحو:

(حم)

ومنها ما جاء على ثلاثة أحرف نحو:

(ألم) و (ألر)

ومنها ما جاء على أربعة أحرف نحو:

(ألمر) و (ألمص)

ومنها ما جاء على خمسة أحرف نحو:

(كهيعص) و (حمعسق)

وإذا كانت هذه الحروف قد جاءت على نظام معين وطريقة مخصوصة – فإن ذلك لأبلغ دليل على الإعجاز الصوتي الذي يدل دلالة واضحة على أن للقرآن اتساقاً صوتياً ونظاماً متحدى به، ولأجل ذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى:) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ (بأن كون القرآن مثانى متشابها، أي: يشبه الحرف فيه الحرف في نمط معين ونظام مخصوص يدل على اتساق صوتي مؤثر ليس له من مثيل ولا نظير.

5 - تعلّق الألفاظ "كأصوات" بمعانيها:

رغم أن هذه النظرية تستند استناداً أساسيا على الألفاظ والأصوات والأجراس والأصداء، إلا أن الصوت يتعلّق أشد ما يكون التعلّق بمعناه؛ إذ أن الألفاظ خدم للمعاني ومصرفة على حكمها كما يقول الجرجاني، ولهذا لا يمكن عزل المعاني عن الأصوات والاهتمام بالألفاظ دون معانيها.

وإذا كانت اللغات الإنسانية عموماً هي أصوات متقطعة يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم فقد ذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن جنى إلى أن هنالك تناسباً بين أصوات اللغات وأصوات الطبيعة؛ بل هي محاكاة لها وتقليد لأصواتها نحو دويّ الريح وأزيز القدر وخرير الماء ونعيق الغراب وصهيل الفرس؛ قال ابن جني: (كأنما توهّموا أن في صوت الجندب استطالة فقالوا (صرّ) وفي صوت البازي تقطيعا فقالوا (صرصر) وقد اختار العرب –حسب رأي هولاء العلماء – لأكل الرطب (الخضم) ولأكل اليابس القضم فاختاروا الخاء - لرخاوتها - للرطب، والقاف – لصلابتها- لليابس) ويقول ابن القيم: (ولقد كنت لا أعلم موضوع اللفظ وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه؛ فحكيت لشيخ الإسلام (أي ابن تيمية) هذا عن ابن جني؛ فقال: وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك، ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف والمتوسطة للمتوسط؛ فيقولون: عزّ يعزّ بفتح العين إذا صلب وأرض عزاز صلبة، ويقولون: عزّ يعزّ بكسرها: إذا امتنع؛ والممتنع فوق الصلب فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره، ثم يقولون: عزّه يعزه: إذا غلبه؛ قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام): وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا من عدوه ولا يغلب غيره؛ فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015