عوَّل الجرجاني على النظم في دراسة الإعجاز تعويلاً كبيراً؛ بل عدَّه الأصل الذي يدور عليه الأمر كله؛ إلا أنّ فكرة النظم باعتبارها محدداً للإعجاز لم تكن فكرة جديدة ابتدعها الجرجاني، وإنما تناولها قبله الكثيرون؛ وقد كان لهذه الفكرة تفسيرات متعددة وإيضاحات متنوعة لم يرض عنها الجرجاني ولم يعتد بها؛ ولأجل ذلك يقول: (إنّ المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه - وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها ولا يسلك المسالك التي نهجناها- في عمياء من أمره)؛ ولهذا تراه يرفض قول القاضي عبد الجبار: (إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلم وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة) وذلك لأن النظم عند القاضي لم ينتهج فيه نهج الجرجاني؛ ولهذا يقول الجرجاني أيضا: (ليس من عاقل يفتح عين قلبه إلا ويعلم ضرورة أنّ المعنى في ضمّ الكلم بعضها إلى بعض وتعليق بعضها ببعض لا أن ينطق بها في إثر بعض)

ورغم اعتصام الجرجاني الشديد بالمعنى ونبذه للصوت وراء ظهره؛ إلا أن لهذا الصوت أهميته أيضا؛ إذ أنه آلة الكلام والجوهر الذي يقوم به التقطيع، ومعلوم أن الكلام لا يكون كلاماً إلا بهذا التقطيع، ولما كان أمر الصوت على هذه الدرجة العالية من الأهمية - فقد أولى علماء القرآن مخارج الحروف عناية فائقة، وميّزوا بين الحروف في الصفات والمخارج فكان منها المهموس والمجهور وحروف الاستعلاء والاستفالة وغيرها.

والحق أن انسجام الأصوات وتناغم الحروف سمة ظاهرة معلومة لكل من عرف القرآن وأكثر سماعه؛ ولهذا جعل ابن عطية توالي هذه الأصوات حين يتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة أحد المزايا التي يتبدى بها الإعجاز، ولما كان الأمر على الوجه الذي سبق – فإن القرآن العظيم قد بلغ الغاية في التقاء الصوتي وحسن الوقع في الأسماع؛ إذ أن له نظامه الصوتي الخاص الذي يشكّل اتساقاً في الصوت ليس بعده اتساق؛ ولأجل ذلك تجد العلماء قد تشددوا في الأداء والتجويد فلم يتركوا إدغاماً ولا إخفاء ولا مدّا ولا حرفاً من الحروف إلا أعطوه حقه، وما ذاك إلا لأن للقرآن نظاماً معيناً به تظهر روعة الصوت وجمال الجرس والنغمات.

وإذا كان القرآن في حلاوة الألفاظ وفصاحتها قد بلغ القمة فإن ذلك ليس بالأمر القاصر على موضع معين؛ بل هو أمر شامل ينتظم القرآن من أوله إلى آخره، ولاشك أن هذه الملازمة هي التي تجعل مسموع القرآن متميزاً عن مسموع سائر الكلام؛ وبهذا أيضا وقع التحدي وحصل التعجيز

وقد ذكر الله تعالى الحروف الهجائية التي تتركب منها الألفاظ في أوائل السور تحديا للبشر بأن يركبوها وينظموها فيأتوا بمثل القرآن؛ يقول ابن كثير: (ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله؛ هذا مع أنه مرّكب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها؛ وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره والمبرد والمحققون، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا ووزره الزمحشري في كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية)

ويقول الإمام القرطبي رحمه الله عن ذلك: (إن الحروف المذكورة في أوائل السور هي حروف المعجم التي استغنى بذكر ما ذكر منها عن بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين … ومجموع هذه الحروف (المذكورة) أربعة عشر حرفاً … يجمعها قولك (نص حكيم قاطع له سر) وهي نصف الحروف عدداً؛ والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف؛ وهذه الحروف الأربعة عشر على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة … ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبدي لا معنى له بالكلية - فقد أخطأ خطأ كبيراً)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015