من لفظة "سويداواتها" الهاء والألف اللتين هما عوض عن الإضافة لبقي ثمانية أحرف، ومع هذا فإنها قبيحة، ولفظة) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم (عشرة أحرف وهي أطول منها بحرفين، ومع هذا فإنها حسنة رائقة

5 - أما الكراهة في السمع فهو معيار نسبي فضفاض لا يكاد يتفق عليه الناس أصلاً، وقاعدة كهذه لا تصلح معياراً للجمال أو عدمه، ثم إن كلمة "الجرشي" التي استدلوا بها في هذا الباب - فهي لم تقبح لكراهة السمع لها؛ بل قبحت لأنها لا تلائم بقية المفردات في السياق، ولو أن المتنبي قال:

خبيث الجرشي وضيع النسب

لما قبحت اللفظة أصلاً

6 - أما الابتذال فإن هذه الأقسام لا تصلح فيه؛ بل الذي يمكن أن يفهم من الابتذال هو تغيير العامة للكلمة سواء في اللفظ أو المعنى أو توليدهم لها أو وضعهم لها، وهذا معيار لصحة الاستخدام فحسب، وفرق بين معيار صحة الاستخدام وبين معيار الحسن والجمال؛ إذ أن المفردة لا تكون حسنة فصيحة إلا بعد أن تكون صحيحة؛ أي أن الفصاحة درجة فوق الصحة؛ فالمفردة الصحيحة سواء استخدمها العامة أم لم يستخدموها فهي فصيحة إذا وضعت موضعها المناسب من النظم والتركيب؛ وإلا فلا.

هجوم الجرجاني على قواعد اللفظيين:

إن آراء اللفظيين هذه لا تكاد تشكل منهجاً لدراسة الفصاحة ولا نظرية لسبر أغوارها، ولهذا واجهت كثيراً من الانتقادات، ومن أكابر العلماء الذين تصدوا لها عبد القاهر الجرجاني الذي كره الاتجاه الصوتي المحض ومقت دراسة الأصداء المجردة والأجراس الخالصة، وذهب إلى أن فصاحة اللفظ إنما هي مزية من أجل معناه لا من أجل جرسه وصداه، وحتى يسد الجرجاني الذريعة الصوتية من أصلها فقد حاول من كل وجه ومن كل طريق أن يبطل كون الفصاحة وصفاً للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان، وليس ذلك فحسب بل عدّ التوافر على دراسة الأصوات والأجراس والأصداء داء دوياً يسرى في العروق ويفسد مزاج البدن وذهب إلى أن السبب في ذلك هو أن القدماء من البلاغيين عندما وصفوا اللفظ بالشرف وجرت العادة بذلك واستمر عليه العرف فتح ذلك على المتأخرين الذين لم يفهموا جيداً - بابا من الفساد لا يمكن وصفه؛ يقول: (إن أردت الصدق فإنك لا ترى في الدنيا شأناً أعجب من شأن الناس مع اللفظ ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار إحدى طبائعها أغرب من فساد رأيهم في اللفظ؛ فقد بلغ من ملكته لهم وقوته عليهم أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم وغيبوا عن عقولهم وحيل بينهم وبين أن يكون فيما يسمعونه نظر ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر، فلست ترى إلا نفوساً قد جعلت ترك النظر دأبها ووصلت بالهوينا أسبابها فهي تغتر بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل وتلقى بأيديهم في الشبه وتسرع إلى القول المموه) ويذهب الجرجاني إلى أن من فساد الظن التوهم بأن المزية في مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان؛ يقول: (ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطرح النظم والمحاسن .... وصدّ بوجهه عنها جميعاً وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل، كيف وهو يؤدى إلى السخف والخروج عن العقل)؛ ولهذا رفض الجرجاني تماماً معايير الفصاحة عند اللفظيين مثل الغرابة والحوشية وتنافر الحروف وغيرها

وذهب الجرجاني إلى أن الفصاحة لا تظهر في اللفظ المفرد المقطوع المرفوع عن الكلام وإنما يوجبها للفظة موصولة بغيرها فليس الفصاحة – عنده – هي العلم باللغة ومفرداتها؛ بل المزية والخصائص في النظم والتركيب؛ يقول: (اعلم أن ليس لنا إذا تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل ولا هي منا بسبيل؛ وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب)

نقد رأي الجرجاني:

رغم أن نظرية الجرجاني قد كانت أميز النظريات وأحسنها في دراسة الإعجاز القرآني على الإطلاق، إذ لم يسبق لها في تاريخ هذا العلم مثيل ولم يأت بعدها ما هو أحسن منها أو يضاهيها، إلا أن الطابع الكلامي الذي أسبغ عليها واهتمامها بالرد على الخصوم قد أكسبها سمة ظرفية معينة في بعض الجوانب، وقد أراد الجرجاني أن يهدم آراء اللفظيين بصورة لا تجعل لهم عرقا ينبض من جانب وأن يبني هذا العلم بناء جديداً من جانب آخر، وإذا كان الجرجاني قد عدّ الاشتغال باللفظ داء دوياً ينبغي علاجه فإنه قد عالجه علاجاً شافياً، إلا أن هذا العلاج قد

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015