مسألة مهمة ينبغي التنبه لها:

وهي أن النسخ قد يلتبس مع التخصيص، فالتخصيص: هو إخراج بعض أفراد العام بدليل، فحينما يقول الله عز وجل مثلاً) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة: من الآية228) فهذا عام كل مطلقة، ثم يقول في موضع آخر) وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: من الآية4) فالحامل لا تتربص ثلاثة قروء، و إنما عدتها وضع الحمل، فهذا من قبيل التخصيص.

وهكذا في قوله تعالى:) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق: من الآية4) فالصغيرة التي لم تحض إذا طلقت و الآيسة ـ وهي المرأة الكبيرة التي انقطع حيضها وطلقها زوجها خرجت من عموم قوله تعالى:) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة: من الآية228) فهذا إخراج لبعض العام، فصار التخصيص ملتبساً مع النسخ، فكيف نفرق بينهما؟

يمكن أن يفرق بينهما بما يلي:

1/ أن يقال: إن النسخ رفع للحكم الشرعي بدليل شرعي، وأما التخصيص فهو ليس برفع إنما هو بيان، أي: بيان أن هذه الأفراد غير داخلة أصلاً في العموم، فحقيقة التخصيص أنه قصر للعام على بعض أفراده، وليس برفع العام، فالأفراد التي خرجت من العام ليست مرادةً للمتكلم أصلاً،ً و أما ما خرج بالنسخ فهو مراد، ثم رفع بعد ذلك.

2 / ومن الفروق أيضاً: أن التخصيص لا يرد على الأمر لمأمور واحد، مثاله: لو أنه قال: أعتق رقبة، وأكرم زيداً فهذا مأمور لأمر واحد، فلا يمكن أن يخصص، فتقول أكرم زيداً إلا زيداً، أو أكرم زيداً إلا بعضه. لكن يمكن أن ينسخ هذا: فتقول أكرم زيداً، ثم تقول بعد ذلك: لا تكرم زيداً. فالتخصيص لا يرد في مثل هذه الصورة.

3/ ومن الفروق كذلك: أن النسخ يبطل حجية المنسوخ، وأما التخصيص فيكون النص العام حجة لباقي الأفراد التي لم تخرج بالتخصيص.

4/ ومن الفروق أيضاً: على القول: بأن الآحاد لا ينسخ المتواتر، أو السنة لا تنسخ القرآن، أو القرآن لا ينسخ السنة، فهذا كله غير وارد في التخصيص، لأنه بيان وهو أسهل، وأما النسخ فهو رفع. ويحتاج إلى شروط ثقيلة، هذا عند من يمنعون في ذلك في النسخ.

5 / ومن الفروق: أن التخصيص لا يشترط فيه التراخي، كما في قوله تعالى:) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4)) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) (النور: من الآية5) فهذا تخصيص بالاستثناء جاء متصلاً بالنص، ومثله قوله تعالى:) وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: من الآية97) فصار على المستطيعين فخصهم لذلك وأخرج غير المستطيعين.

لكن النسخ لا بد فيه من التراخي.

6/ ومن الفروق: أن النسخ لا يدخل الأخبار المحضة، بينما التخصيص يدخلها، كما لو جاء مخبر فقال: هلك آل فلان، ثم بعد مدة قال: فلان نجى من الموت بأعجوبة، فهذا تخصيص للعام السابق فالخبر يمكن أن يخصص لكن النسخ لا يرد على الأخبار المحضة.

7 / ومن الفروق: أن المنسوخ قبل ورود النسخ يعمل به فإذا جاء النسخ رفعه، أما التخصيص إذا عمل المكلفون بالعام ثم جاء التخصيص بعد ذلك فالواقع أنه نسخ .. فقضية العمل في باب تخصيص العموم غير وارده قبل ورود المخصص في وقت نزول التشريع فإذا عمل به المكلفين ثم جاء دليل يخصص فهذه مسألة رفع جزء العبارة أو بعض العبارة التي تركت الكلام عليها .. عرفتم الفرق.

فهذه ثمانية فروق بين النسخ والتخصيص فلا يلتبس بعد ذلك.

وأختم الكلام بالتنبيه على الأسباب التي من أجلها كثرت دعاوى النسخ:

و يمكن أن نجملها في ستة أسباب:

أولها: توهم أن ما شرع لسبب ثم زال السبب أن هذا من قبيل النسخ، كما سبق في آية (الصفح والعفو مع آية السيف.

والثاني: الظن بأن أبطال الإسلام لما كان عليه الأمر أولاً، أن هذا من قبيل النسخ، بينما هي أحكام شرعت ابتداءً، فليس هذا من قبيل النسخ.

والثالث: الاشتباه بين التخصيص والنسخ.

والرابع: الاشتباه بين البيان والنسخ , كتقييد المطلق، وبيان المجمل، وسبق أن السلف يعبرون كثيرا عن هذه الأشياء بالنسخ.

الخامس: توهم وجود تعارض بين نصين لا يمكن الجمع بينهما، والواقع أنه يمكن الجمع بينهما كما في كثير من الحالات. ولهذا كان ابن خزيمة ـ رحمه الله ـ يقول لا تأتيني بنص في كتاب أو سنة تدعي فيه التعارض إلا جمعت بينهما, فأحيانا العالم يستشكل الجمع بين نصين فيحكم أن هذه الحالة هي من قبيل النسخ وليس الأمر كذلك.

السادس: وهو حمل ألفاظ السلف على غير وجهها في هذا الباب.

أهم المؤلفات في الناسخ والمنسوخ:

أذكر أربعة من أهم الكتب في نسخ القرآن: وهي:

1 / الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد القاسم لابن سلاّم.

2/ الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب.

3/ نواسخ القرآن، لابن الجوزي.

4 / الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس. فهذه الأربعة كتب هي أجلّ الكتب في باب الناسخ والمنسوخ ـ على حسب ما أعلم ـ والكتب كثيرة جداً،لكن هذه أجمعها وأعظمها.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015