ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "لما بين جلَّ وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً. وبين أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم. وذلك في قوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [17/ 8]، ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جلَّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [17/ 8] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذلة والمسكنة. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 18 / ص 23 - 25).

وقفة مع سياق الآيات: المتأمل في سياق الآيات يتبين له قطعا أن الإفسادين قد وقعا من بني إسرائيل، وأن القوم المسلَّطين عليهم قوم كفار، وذلك من عدة أوجه:

1 - قوله تعالى: (وليتبروا ما علوا تتبيرا) قال الشنقيطي: "تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي: أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 28 / ص 97). وقال ابن عاشور: والتتبِير: الإهلاك والإفساد. التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 37).

والجهاد في الإسلام ليس فيه إفساد وتكسير، بل هو جهاد غرضه الأكبر الدعوة إلى الله، وليس الهدف منه إراقة الدماء والتكسير والإفساد في الأرض، وهذا يبين أن القوم المسلطين قوم كفار.

2 - قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم) وعسى من الله واجبة، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن المنذر والبيهقي. انظر: الدر المنثور - (ج 1 / ص 587)، فهل يعقل أن يقال أن الله سيرحم بني إسرائيل وهم على دينهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟!! أم أن المقصود الظاهر من الآية أن الله يرحمهم إذا عادوا للتمسك بدينهم، وهذا إنما يقال حين كان دينهم صحيحا.

وكذلك قوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) قال الفخر الرازي: "اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم". تفسير الفخر الرازى - (ج 1 / ص 2777).

3 - قوله تعالى: (وإن عدتم عدنا) يقول تعالى وإن عدتم يعني في المستقبل للإفساد عدنا لعقوبتكم.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بعث الله عليهم في الأولى جالوت فجاس خلال ديارهم وضرب عليهم الخراج والذل ... إلى أن قال: قال الله: بعد الأولى والآخرة عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا قال: فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين". الدر المنثور - (ج 5 / ص 239 - 240).

وفي ذلك يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم وذراريهم، وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر". أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 6 / ص 160).

أقول هنا: لقد كان للشيخين الفاضلين غنية عن مخالفة اتفاق المفسرين، إذ لو اعتمدا في الواقع الذي يجري في فلسطين على قوله تعالى: (وإن عدتم عدنا) لكفى، فمتى ما عاد بنو إسرائيل للإفساد في الأرض عاد الله للانتقام منهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015