وتبرز أهمية العناية بأصول التفسير في العصر الحديث من ناحيتين: الأولى صعوبة إحاطة المفسر بالعلوم التي ذكرت كشرط للتفسير؛ نظرا لتطور هذه العلوم واتساعها، ومن ناحية ثانية أنه عندما يتعمق الباحث بواحد من هذه العلوم يطغى على العلوم الأخرى ويترك أثره في تفسيره، وهذا ما نلمسه في مناهج المفسرين المتقدمين، حتى أصبحت التفاسير توسم بالعلم الذي اصطبغت به أو أثر ذلك العلم فيها، كالتفسير اللغوي، والتفسير الفقهي، والتفسير بالمأثور، والتفسير الصوفي ... ، وهذا إن كان لونا من التفسير إلا أنه ليس التفسير الأمثل الذي تقتضيه الضوابط التي وضعها المفسرون، بل لا يصح واحد منها ما لم يلتزم بمقتضيات العلوم الأخرى.
الدراسات القرآنية وتنازع العلوم
هذا التواشج بين العلوم وبين التفسير والجدل التاريخي بينها (استيلادا للعلوم أو توظيفا لها) أصبح في العصر الحديث أشد إلحاحا وأعمق إشكالا، من ناحيتي دعوى احتواء القرآن على بعض العلوم أو كلها أو صلاحية أي علم لأن يوظف في فهم القرآن، وقد وجِد المخلص والمسيء بين مدعي كل من الإشكالين أو معارضيهما، كما وجد العالم والمتعالم في تعاطيهما، لكن الدقة تقتضي الحذر في الأحكام المطلقة في القضيتين، وإرجاع تعاطيهما إلى اعتبارين أساسيين يضبطان الوسطية العلمية ومدى الحيد عنها في مقاربة القرآن:
الاعتبار الأول: هو لحظ طبيعة القرآن عند درسه وهي كونه حاملا لرسالة إلهية، وخطابا للعالمين يتضمن محتوى يطلب من المخاطب التعاطي معه، وهذا معنى وصف القرآن بأنه كتاب هداية مأمور بتبليغه والعمل به، ومن مقتضيات هذا الوصف كونه خطابا مطلقا مع اشتماله على ما هو نسبي، فإذا لاحظنا أن القرآن جاء كتاب هداية وإرشاد فينبغي فهم أي معان يحتويها في ثناياه من قضايا العلوم أنها إنما ذكرت ضمن هذا السياق (الهداية) وليست مقصودة لذاتها، فهي حقائق تمثل محطات للاهتداء إلى المرسل (الله) وإدراك عظمة الرسالة (القرآن) وبالتالي أهمية المرسل إليه (محمد صلى الله عليه وسلم)، وأي تجاوز لهذا المستوى يدخل في إسقاط معنى على القرآن لم يأت لبيانه وإن كان أشار إليه.
الاعتبار الثاني: هو لحظ كون القرآن إنما هو نص صيغ بلغة عربية لها قوانينها ومعانيها وأساليبها، ولا يستقيم فهم القرآن من غير الأخذ بالاعتبار البعد النصي والبعد اللغوي للقرآن، ففي البعد النصي ينبغي لحظ تكامل النص وإفصاح بعضه عن بعضه، وأثر بنيته في فهمه، وكيفية صياغة أساليبه وخطابه، وفي البعد اللغوي ينبغي لحظ لغة عصر نزوله وما قبلها، ولغة القرآن في علاقته مع هذه اللغة، فضلا عن قوانين العربية ومعاني مفرداتها.
وعند مراعاة هذين المعيارين يمكن نقد الدراسات المعاصرة للقرآن ومدى الدقة العلمية فيها على تنوع مناهجها وتخصصاتها، ويمكن اعتبارهما بمثابة ضابطين مركزيين للوسطية العلمية في التفسير، ولا بد للدارس عند مراعاتهما أن يلحظ متفرعات عنهما ولوازم لهما، وستكون مشكلات كالتي يثيرها ما يسمى التفسير أو الإعجاز العلمي، أو القراءة المعاصرة للقرآن، أو استخدام العلوم الحديثة في فهم القرآن، غير ذات بال أو أثر؛ لأن لحظ البعد الإلهي والهدائي للقرآن كرسالة سيبعد نسبة شيء إلى القرآن لا يدخل في هذا الإطار، وكذلك الشأن في لحظ الضابط النصي واللغوي يمنع الإسقاط ويساهم في الاستمداد المنهجي للمعنى من القرآن.
ويمكن القول بكلمات ..
إن التفسير بمعناه النسقي التحليلي والتجزيئي الشامل لكامل القرآن لم يعد ثمة حاجة إلى إضافة جديدة فيه تعتمد الجمع والانتقاء أو الاختصار الشخصي، إنما الحاجة فيه إلى عمل موسوعي مؤسسي له صفة الجامع المانع لما تقدم منهجا ومضمونا، أما الدراسات القرآنية بأنواعها المختلفة فهي المجال الخصب للإبداع والتأصيل والإضافة اعتمادا على مناهج وعلوم مختلفة تستحضر كون القرآن كتاب هداية يحمل رسالة من الله ينبغي فهمها، وأنه كتاب ينضبط فهمه باللغة العربية على أنه نص وخطاب يستخدم أساليبها، وباستحضار هذين البعدين لن يعترض معترض على أي دراسة قرآنية مهما اعتمدت من مناهج وعلوم، وكل دراسة أثارت جدلا أو كانت موضع نقد عملي أو طعن من منطلق ديني فإنها مأخوذة من واحد من هذين البعدين.
* عبد الرحمن حللي: كاتب سوري وعضو الهيئة التدريسية في كلية الشريعة جامعة دمشق.
الهوامش:
[1] انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 12 ص125.
[2] انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج1 ص221.
[3] يقول الإمام الراغب الأصفهاني:"من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم، وبحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلات الدنيوية عن استيفائه"، مفردات غريب القرآن للأصفهاني – المقدمة.
[4] البرهان في علوم القرآن، ج 1 ص 8
[5] الرسالة، تح: أحمد محمد شاكر، ط: دار الكتب العلمية، ص 20
[6] أبو محمدعبدالحق بن عطية الأندلسي (ت541 ه)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المقدمة، ص12.
[7] انظر: محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي الغرناطي (ت754ه)، البحر المحيط في التفسير، المقدّمة (ج 1 / ص 109)
[8] انظر: ناصر الدين أبي سعيد عبد الله الشيرازي البيضاوي (ت691ه)، تفسير البيضاوي (المسمى: أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، المقدمة
[9] ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، تح: عدنان زرزور، ط:2 مؤسسة الرسالة-بيروت1972، ص34
[10] انظر مقدمات كتابه "التكميل في أصول التأويل".