إن المعاني المباشرة, وموضوعات الألفاظ ليست غَرَضاً للمستَنبِط, وإنما غرضه ما وراء ظاهر معنى اللفظ, ويسميه بعض العلماء: المعنى الباطن (39) , وهو موضوع علم الاستنباط, قال الرازي (ت:604): (والتمسك بالنص لا يسمى استنباطاً) (40). ولبيان: ما الذي يُستَنبَط؟ يقول ابن العربي (ت:543): (ومن علم الباطن – أي: المعاني المستنبطة – أن تستدلَّ من مدلول اللفظ على نظير المعنى, وهذا بابٌ جرى في كتب التفسير كثيراً) (41) , ويقول ابن القيم (ت:751): (معلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل, ونسبة بعضها إلى بعض, فيعتبرُ ما يصح منها بصحة مثله ومشْبِهِه ونظيره, ويُلغَى ما لا يصح, هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط) (42) , وقال: (الاستنباط كالاستخراج, ومعلومٌ أن ذلك قدرٌ زائدٌ على مجرد فهم اللفظ, فإن ذلك ليس طريقهُ الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط, وإنما تنال به العللُ, والمعانيُ, والأشباه والنظائر, ومقاصد المتكلم. يوَضِّحُه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستَنْبِطِه .. , ومعلوم أن هذا الفهم قدرٌ زائدٌ على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه, فإن هذا قدرٌ مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب, وإنما هذا فهم لوازم المعنى, ونظائره, ومراد المتكلم بكلامه, ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يُدخِل فيها غيرَ المراد, ولا يُخرِج منها شيءٌ من المراد) (43) , ويقول الشاطبي (ت:790) معلِّلاً لِصِحَّة وجهٍ من المعاني المستنبطة: (ولكن أتى بما هو نِدٌّ في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن) (44).

فيتلخَّصُ من مجموع ذلك أن ما يُستَنبَطُ هو:

نِدُّ المعنى الظاهر ونظيره؛ الذي يوافقه في القصد أو يقاربه, ولوازم المعنى, وعلله؛ ليُلحَق به أشباهه ونظائره, وتتبين معه نسبةُ الألفاظ بعضها إلى بعض, ثُمَّ مقاصد المتكلم ومراده, بحيث لا يُزادُ عليها ولا يُنقَصُ منها.

وهذه أمثلة من استنباطات العلماء؛ جليلةُ المعاني, دقيقةُ المآخذ, توضح هذه الأنحاءَ المستنبطةَ بجلاء:

- قال ابن عباس رضي الله عنه: (الرجم في كتاب الله لا يغوص عليه إلا غواص, وهو قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} (المائدة 15)) (45) , ومأخذ ابن عباس في ذلك أن أهل الكتاب أخفَوا حكم الرجم في كتابهم, فبيَّنه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (46) , فطابق وصف الآية حالهم ذلك, فكان حكم الرجم مما جاء به كتاب الله تعالى بهذا الاعتبار. وهذا الاستنباط من ابن عباس رضي الله عنه نِدٌّ للمعنى الظاهر للآية, ويوافقه في القصد والعِلَّة. وقد استنبط الزهري (ت:124) نحواً من ذلك فقال: (فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} (المائدة 44) كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم) (47).

- قال سفيان بن عيينة (48) (ت:198) في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام 38): (ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد, ومنهم من يعدو عدو الذئب, ومنهم من ينبح نباح الكلب, ومنهم من يتطَوَّس كفعل الطاووس, ومنهم من يشبه الخنازير التي لو أُلقِيَ إليها الطعام عافته, فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ واحدة منها, وان أخطأ رجلٌ تَرَوَّاهُ وحفظه) (49). وهذا الاستنباط قريبُ المأخذِ من وجه استنباط ابن عباس السابق؛ قال الخطابي (ت:388): (ما أحسن ما تأوَّل سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة؛ وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمُهُ مطاوعاً لظاهره وجبَ المصيرُ إلى باطنه (50) , وقد أخبر الله عن وجود المماثلةِ بين الإنسان وبين كلِّ طائرٍ ودابةٍ, وذلك ممتنع من جهةِ الخِلْقَة والصورَة, وعُدِمَ من جهة النطق والمعرفة, فوجب أن يكون منصرفاً إلى المماثلةِ في الطباع والأخلاق, وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع, فليكن حذرك منهم, ومباعدتك إياهم على حسب ذلك) (51).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015