فأعظم جهاد في سبيل الله) (28) , كما أنه ميدان تنافس العلماء, وميزان تفاضلهم, قال البيضاوي (ت:685) في قوله تعالى: {وأُخَرُ متشابهات} (آل عمران 7): (محتملات لا يتضح مقصودها - لإجمال أو مخالفة الظاهر - إلا بالفحص و النظر؛ ليظهر فيها فضل العلماء, ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها, وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها, فينالوا بها - وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها, والتوفيق بينها وبين المحكمات - معالي الدرجات) (29).

وقد اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في نيل تلك الفضائل والمنازل, وأصاب كلٌّ منهم ما قُسِمَ له؛ فمستَقِلٌّ ومستكثرٌ, وحين تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيءٌ من كتاب الله خَفِيَّ المعنى عنهم, بل كُلُّ كتاب الله تعالى - ألفاظه ومعانيه - معلوم المعنى عند مجموع الصحابة رضي الله عنهم, ثُمَّ يتفاوت علم أفرادهم به بحسب ما اختصَّ الله تعالى كُلاًّ منهم, ولمَّا قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا والذي فلَقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسمَة, إلا أن يُعطِي اللهُ عز وجل عبداً فهماً في كتابه) (30) , ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: (اللهم فَقِّهُ في الدين, وعلِّمهُ التأويل) (31) , ولو كان المراد بهذا الدعاء معرفة معاني الألفاظ الظاهرة لَمَا كان لاختصاص ابن عباس بهذه الدعوة مزيَّة؛ فإنه ممَّا يشترك فيه كثيرٌ من الصحابة, وإنما المراد ما ذكره علي رضي الله عنه مِن الفهم في كتاب الله الذي يفتح الله تعالى به على من شاء من عباده, وقد وصف عليٌّ ابنَ عباس رضي الله عنهما بقوله: (كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيقٍ) (32) , ولمَّا بلغَه رأيَ ابن عباس في حادثةِ تحريق من غلو فيه قال: (ويح ابن أم الفضل؛ إنه لغوَّاص) (33) , وكان عمر يأذن له مع المهاجرين, ويسأله ويقول: (غُصْ غَوَّاص) (34) , وأمَّا عمر رضي الله عنه فهو المُحَدَّثُ المُلهَم (35) , وحسبه أنه ممَّن عُنِيَ بقوله تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء 83) , حيثُ قال في سبب نزولها: (فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر) (36).

قال ابن تيمية (ت:728) مبيناً تفاوت الصحابة في الفهم والاستنباط: (وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة, وترجمان القرآن, مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه: (سمعت, ورأيت) , وسمع الكثيرَ من الصحابة, وبورك في فهمه والاستنباط منه, حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً, قال أبو محمد بن حزم: وجُمِعَت فتاويه في سبعة أسفار كبار. وهي بحسب ما بلغ جامعها, وإلا فعلم ابن عباس كالبحر, وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس, وقد سمع كما سمعوا, وحفظ القرآن كما حفظوا, ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي, وأقبلها للزرع, فبذر فيها النصوص, فأنبتت من كل زوج كريم, {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة:4) , وأين تقع فتاوي ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوي أبي هريرة وتفسيره, وأبو هريرة أحفظ منه, بل هو حافظ الأمة على الإطلاق؛ يؤدي الحديث كما سمعه, ويدرسه بالليل درساً, فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه, وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه, والاستنباط, وتفجير النصوص, وشقِّ الأنهار منها, واستخراج كنوزها) (37).

ومن ثَمَّ يشتدُّ حبور العالم وسروره حين يظفر بشيء من فرائد المعاني المستنبطة؛ مستشعراً نعمة الله تعالى وفضله عليه, ومن ذلك قول الشافعي (ت:204) رحمه الله: (استنبطتُ البارحةَ آيتين, فما أشتهي باستنباطهما الدنيا وما فيها) (38).

:: موضوع علم الاستنباط:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015