والخطاب القرآني في تقنياته الأسلوبية يتمتع بكل الجماليات، فهو ينحاز لعدد من العادات الراسخة، ويندد بطائفة أخرى؛ لأن غاية الخطاب القرآني في تفاعله مع الواقع وفي تعامله مع اللحظة التاريخية تكمن في تحقيق نموذج العدالة بشقيه الاجتماعي ولأخلاقي، وقد كان لثنائية المقال والمقام أثرها في تحقيق مناط الخطاب القرآني وتحديد معالمه.

ومن اللفتات الجميلة في هذا الفصل تعريج الباحث على دلالات الخطاب اللغوية في القرآن الكريم التي جاءت على ثلاث معان: التوجه بالحديث، والتفصيل للكلام والمعاني، والجدال والحِجاج.

وبعد هذه الوقفات الرائعة حول الخطاب القرآني وصوره، انتقل بنا مؤلف الكتاب إلى روضة أخرى من رياض كتابه التي تدور حول النص والفروق بينه وبين الخطاب، فالنص كما يذكر هو النتوء الطبوغرافي للخطاب، أي أن النص هو الخطاب المثبت، بطريقة رياضية يذكر أن النص = الخطاب +المحذوف منه، أو أن الخطاب = النص + المحذوف من الخطاب. أهم ما في هذا الموضوع مشهد التقاطعات أو كما يسميها بلغة الرياضيات مرة أخرى نقطة الإحداثيات.

إن وظيفة الخطاب/ النص لا بُدّ أن تقوم بواحد من ثلاثة أدوار: 1 - الإشارة إلى حقيقة على هيئة مثال، 2 - إضاءة انفتاح الجزء على الكل والنسبي على المطلق، 3 - والكشف عن إثر الواقع، 4 - التاريخ في تشكيل نسبة الوضع الإنساني.

وأهم نتيجة يمكن الخلوص إلهيا من هذه المقاربة الرائدة تأسيس الخطاب الإسلامي للعلاقة النفسية الاجتماعية بين المرء والواقع.

وجاء في الفصل الثاني الموسوم بـ النص والاختلاف والدلالة أن التعارض أو الاختلاف في ثنائية مثل الناسخ والمنسوخ تنطوي بطبيعتها على أكثر من دلالة محتملة، وهذه الدلالات المحتملة كلها غير متماثلة، وغير متضادة في الوقت ذاته، وقد بين الدكتور منير بالأمثلة أن ثراء النص نابع من هذا التعدد، وأن سعته الاحتمالية هي مظهر ذلك الثراء.

كما أشار إلى أن النص يؤدي هذه الوظيفة من خلال ضروب أسلوبية ثلاثة هي: الاقتصاد، والإسهاب، والمخالفة السياقية.

فالاقتصاد الأسلوبي كما بينه صاحب النص القرآني هو نوع من تكثيف الكلام واختزاله دون إخلال، وهو بلاغة مفعمة بالإيحاء والظلال. وقد ساق الدكتور منير ألواناً من الاقتصاد الأسلوبي من القرآن الكريم متضمنة أنواعاً شتى من الأساليب، فقد تناول أمثلة من الحروف المفردة والمركبة في بدايات السور، وتناول موضوع الحذف، بوصفهما وسيلة من وسائل الربط في السياق؛ الأمر الذي سهل عملية إدراك العلاقة الدقيقة التي تربط بين عناصر الغياب وعناصر الحضور في النصوص القرآنية. كما تطرق المؤلف إلى موضوع الاشتراك اللفظي الذي عالجه بطريقة نصية متميزة، فضلاً عن معالجته غموض مرجع الضمير.

أما الإسهاب بمعنى الإطالة أو الكثرة فقد بين الدكتور منير أن بلاغة الإسهاب وفق منهجه الجديد تعمل على شحذ العناصر التشكيلية والدلالية في عملة التوصيل، فبلاغة الإسهاب تضع النص أحياناً في موضع القارئ كما لو كان النص قارئاً لذاته. ومن ثم فهو يقوم دوماً بـ"تعديل التوقع" و"تحويل نمط الذاكرة". وقد بين الدكتور في طريقة التعرف على دلالة الاختلاف في الواقعة الواحدة وذلك من خلال مات ناوله كقصة موسى وفرعون ومواضع متعددة من القرآن الكريم، وقد خلص أخيراً إلى أن وظائف التكرار منها ما يتصل بالإيقاع، ومنها ما يتصل بالوصف، ومنها ما يتصل بالتأكيد.

أما المخالفة السياقية فقد عرفها الدكتور منير بأنها "انحراف اللغة داخل النص عن أصل وضعها"، فقد بيّن المؤلف أصول هذا السياق الأسلوبي في القرآن الكريم من خلال مخالفة سياق العدد في بعض الآيات القرآنية، والالتفات في الضمائر، والإبدال بين حروف الصفات.

ولمّا كان موضوع التخلّص من أساسيات علم النص، فقد عقد المؤلف الفصل الثالث له، حيث أشار بأن التخلّص هو القانون العام الذي ينتظم الصياغة الكلية لهذا النص الفريد، مشيراً بذلك إلى تقصير التعريفات السابقة لموضوع التخلص ومحدوديتها، وقد أشار إلى اللمسات اللطيفة التي تطرق إليها باحثو علوم القرآن في هذا الموضوع من خلال علم المناسبة القرآني.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015