لذلك حصر أصحاب الدعوة لاعتبار المعنى التاريخي مهمة المفسِّر في النقل والإسناد وأنكروا استعمال الرأي في استخراج المعنى لأنه –أي المعنى- معطى سلفاً وغاية ما يتحرك فيه عقل المفسر هو الترجيح بين المعاني التاريخية المختلفة والاختيار بينها بواسطة الإسناد وتحقيق النص كالجرح والتعديل. ولقد أشار أبو حيان الأندلسي (توفي745ه) إلى هذا حين قال: "وقد جرنا الكلام يوما مع بعض من عاصرنا فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك. والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثيرة الاختلاف متباينة الأوصاف متعارضة ينقض بعضها بعضاً، ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلاً لغة الترك إفراداً وتركيباً حتى صار يتكلم بتلك اللغة ويتصرف فيها نثراً ونظماً، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقاً للغتهم قد شارك فيها فصحاءهم، ثم جاءه كتاب بلسان الترك فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني حتى يسأل عن ذلك: "سنقراً" التركي أو "سنجراً"؛ ترى مثل هذا يعد من العقلاء؟ وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نقل فيها التفسير عن السلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة، ومن العرب الفصحاء الذين نزل بلسانهم ... وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقه وما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيراً حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه وهذا كلام ساقط."31

لقد استند معارضو التفسير بالرأي إلى بعض الآثار الموهمة لما ظنوه من إنكار تأويل القرآن على مقتضى ما تشير إليه اللغة، والعلوم التي اكتسبها المفسر.

ولعل العلماء الذين ناصروا –باعتدال- التفسير بالرأي كانوا على وعي بخطورة ما يؤدي إليه توقف الأنظار عن معانقة كتاب الله واستخلاص معانيه بحسب تغير الأزمان والأحوال، ففتحوا باب الاجتهاد في التفسير، وأدركوا سر قابلية المعنى القرآني للتجدد والاختلاف، إذ لو أراد الله تعالى أن يجمع الناس على معانٍ محددة لأنزل القرآن محكماً كله، ولأوصى رسوله أن يفسره كله. ولكنه شاء أن ينزل إلى الناس كتاباً متحركاً نابضاً بالحياة شاهداً على الناس أينما كانوا ومتى وجدوا، فضَمَّن كتابه المتشابه والمشترك والمجمل والعام، وأرشد الناس إلى المقاصد العامة التي يُستَهدى بها في تعيين الدلالات وإظهارها. إن الآراء التي لا ترى في معاني القرآن سوى دلالاتها التاريخية تلتقي مع الرؤية الكنسية الجامدة في تفسير الكتاب المقدس حيث يحتاج القارئ للواسطة الدينية أو المذهبية لفهم النص وإن كان على اطلاع بيِّن على اللغة التي كتب بها النص المفسَّر، ولذلك انطلقت نظرية التأويل في الغرب أ و ما يسمى بالهرمينوطيقا ( Hermeneutic) للإجابة عن سؤال ملح هو: كيف يعيش النص في زمن القارئ، وتستمر حيويته في الإفراز الدلالي؟ وما العلاقات التي ينبغي أن تربط المعنى التاريخي بالمعنى الذاتي؟

* المعنى الذاتي وانحراف التأويل:

إذا كان المعنى التاريخي هو دلالة النّص زمن نزوله، أو في لحظات اكتساب فيها بعض القراء سلطة التأويل بسبب مكانتهم الدينية أو العلمية، فإن المعنى الذاتي ( Individual meaning) هو دلالة النص زمن قراءته، فيصبح محور المعنى التاريخي هو تاريخ النص، بينما يصير محور المعنى الذاتي هو ملتقى النص بميولاته، واعتقاداته، وحتى أوهامه وشهواته.

ولقد عرف تاريخنا التفسيري أنصاراً للمعنى الذاتي مثلتهم المدارس الكلامية والفلسفية والتصوّفية، حيث حملت القرآن على مقتضى النظر القبلي للمؤوّل، فبنى أتباعها تفاسيرهم على أساس مذهبي خالص.

ويشير ابن تيمية إلى خطأ هؤلاء إذ يلبسون لفظ القرآن ما دلّ عليه من معنى تارة أو يحملونه دلالات لا يطيقها وضعه الأصلي، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول معاً.33

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015