يقول السعدي رحمه الله في تفسيره:"تدبره (أي القرآن) مفتاح كل خير محصل للعلوم والأسرار .. فإذا علم هذا، علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والاهتداء بها وكان حقيقا بالعبد أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك. فمن وفق لذلك لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها وما تتضمنه وما تدل عليه منطوقا ومفهوما فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده فلا بد أن يفتح عليه من علومه أمورا لا تدخل تحت كسبه " [25].
فالتدبر من أهم الوسائل التي يقوم الفرد من خلالها بتنمية تلك القدرات وكلما نمت لديه قدرة، كلما ارتقى مستوى التفكر والتدبر لديه. فالإنسان مأمور بالتعلم واكتساب المهارات المختلفة التي تعينه على تعلم وفهم آيات الله القرآنية والكونية.
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان منزلة التدبر، فعدّوه ضرورة من الضرورات الدينية والعقلية التي لايتم العمل إلا من خلالها. روى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن" [26].
أهمية التدريب على تدبر كتاب الله وتفعيله
لوحظ في الفترات التاريخية المتأخرة، عزوف بعض المسلمين عن التدبر في كتاب الله ظنا منهم بصعوبة الأمر. وهذا الأمر من تلبيس الشيطان ومكائده ليصرف العقول والقلوب عن تفهم معاني القرآن وصرفهم عن الغاية التي لأجلها أنزل القرآن فهو كتاب هدى ورحمة وتربية للنفس وترقي بها [27].
والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: " فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " [28] يقول القرطبي في تفسيره:" أي القرآن يعني بينّاه بلسانك العربي وجعلناه سهلاً على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه" [29].
وعلى هذا وردت أقوال العلماء محذرة من الانزلاق في هذا السبيل. يقول ابن تيمية رحمه الله في ذلك:" من المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد الفاظه فالقرآن أولى بذلك وايضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذى هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم" [30].
كما أن التدبر من أهم العوامل المحفزة والدوافع القوية لنهضة فكرية وعلمية هائلة، فالمؤمن المتدبر لكتاب الله حق تدبره، أقدر على غيره من النظر العقلي في هذا الكون واستخراج مكنونات قوانين سيره والتعرف على أسراره ومن ثمّ توظيف ذلك كله لخدمة الإنسانية جمعاء من خلال توفير سبل أفضل للحياة الكريمة الهانئة. وقد نقل التاريخ الأعمال العلمية الهائلة التي قام بها العلماء المسلمون والتي كانت خير شاهد على ثمرة التدبر في حياة الفرد وسلوكه.
والتدبر من أهم الوسائل لبناء وصياغة مجتمع متحضر من خلال بناء العقلية القادرة على التفاعل الإيجابي المتواصل مع الكون وإكتشاف القوانين الكونية والاجتماعية وتحويل ذلك كله بصورة إيجابية إلى تطبيقات وإنجازات تخدم المجتمع وأفراده وتساهم في تحقيق سعادتهم وتنظيم حياتهم. فالتدبر في كتاب الله معجزة مستمرة لا تتوقف، تقدم في كل يوم جديدا مثمرا، يجد فيها كل جيل ضالته المنشودة وسبل سعادته ومقومات حياته.
ولم يتوقف الإبداع في حياة المسلمين إلا عندما نبذوا التدبر وهجروا كتاب ربهم، فقد كان التدبر في الكتاب مفتاحا للتدبر والنظر في الكون الفسيح وكشف قوانينه وتسخيرها لسعادة البشرية.
لقد أثمر التدبر في كتاب الله نتائج مذهلة في واقع المجتمع المسلم، فكان ظهور المجتهدين المطلقين في مختلف فروع العلم من فقه ونحوه، دليلا ساطعا على أثر التدبر بما خلفوّه من مؤلفات وموسوعات علمية هائلة تنّم عن تفاعل إيجابي بين فهمهم لكتاب الله وإدراكهم لطبيعة الواقع الذي يحيون فيه. فجاءت كتبهم ومؤلفاتهم ثمرة تفاعل متواصل بين الكتاب والواقع من خلال فهم وتدبر سليم يقوم على أصول راسخة وقواعد واضحة وضوابط بينة.
¥