(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ {10} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ {11} إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ {15} فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ {17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ {19} وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ {20} بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ {22}
هدايةُ الآيات:
بعد أن فرغ تعالى من عرض قصة أصحاب الأخدود باختصار أدّى الغرض، ببلاغة تامة، وأسلوب مؤثر؛ ندب في هذه الآيات كل فتّان إلى التوبة، وفتح أبواب الندم والإنابة على مصراعيها، ولم يُقنِّط عباده من رحمته وتدارك أخطائهم، وتلافي ذنوبهم مهما كانت فادحة وخطيرة.
فأي عذر بعد هذا؟ وأي رحمة فوق هذه؟ ومن المؤكد أنّ من أصرّ على بغيه وعدوانه، وأبى أن يغتنم الفرص ويبادر إلى التوبة النصوح فإنّه ذو طغيان وعناد، وصنف كهذا ما أجدره بـ (عَذَابُ جَهَنَّمَ) و (عَذَابُ الْحَرِيقِ).
ومن المهم الإشارة في هذه المقام بأنّ الفتنة المنهي عنها في هذه السورة ليست قاصرة على التعذيب الحسي فحسب بل هي تتناول ما هو أبعد من ذلك وأشمل ... فمن ذلك:
1 - فتنة الناس عبر بث الفساد الإعلامي من أفلام وتمثيليات وبرامج ومشاهد لا أخلاقية تؤجج الشهوات وتثير الغرائز!
2 - الفتنة عبر برامج التربية والتعليم فكثير من المناهج التعليمية في ديار المسلمين لا وجود لمادة التوحيد أو الحديث أو الفقه وإنما يعرض للناشئة المذاهب الفكرية الهدامة بل المعتقدات الإلحادية، والنظريات الكفرية كالبعثية والبلشفية والقومية، ونظرية دارون في التطور والارتقاء، وكلّ ذلك ضرب من الفتنة بل أشد من فتنة الإحراق والقتل قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة (191).
3 - الفتنة عبر تذويب حواجز النفرة من الكفار بإلغاء مبادئ الولاء والبراء وتهميش نواقض الإسلام، والتقليل من شأنها وتمييع أصول الدين ومبانيه العظام.
4 - الفتنة عبر السماح للأصوات النشاز من دعاة جهنم من منافقين وإباحيين في التبشير بمبادئهم الخبيثة وطرح أفكارهم المسمومة وترويج تطلعاتهم المشبوهة وتمرير مخططاتهم وبرامجهم الخطيرة!
(فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ):
ولشدة أثر الفتنة وسوء عواقبها وخطورة تبعاتها توعد الله الفتانين بعذاب جهنم، وقد اتخذ هذا الوعيد صيغة التكرار من جهة وصيغة التقديم والتأخير من جهة ثانية.
فأما التكرار فهو واضح من خلال إعادة جملة: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) بـ صيغة أخرى: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) وفي هذا ما فيه من التهديد والوعيد الذي تقشعر من هوله الأبدان!.
وأما التقديم والتأخير فقد تقدم نظير هذا والمراد تقديم الجار و المجرور في الجملتين وهو الخبر على المبتدأ وهو (عَذَابُ) في الجملتين أيضاً.
وهذا التقديم والتأخير مفيد للحصر والاختصاص, أي كأنّ العذاب خاص ومحصور بهؤلاء دون غيرهم!
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}
وهذه الآية الكريمة في مقابل الترهيب الذي سبقها وذلك أسلوب القرآن الكريم في المزاوجة بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد كما تضمنت الآية عدة محفزات مثيرة منها:
1 - التقديم والتأخير في قوله " لَهُمْ جَنَّاتٌ " حيث قدم الخبر وهو الجار والمجرور (لَهُمْ) على المبتدأ (جَنَّاتٌ)، وهذا مفيد للحصر والاختصاص كما تقدم – مراراً – ثم ذكر.
2 - وصف الجنات بأنها تجري من تحتها الأنهار وهي: أنهار الماء غير الآسن، وأنهار العسل المصفى, وأنهار اللبن, وأنهار الخمر، وغيرها ممّا نعرف بعضه ونجهل أكثره ثم ذكرتعالى:
3 - بأنّ ذلك هو (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) وهو الفوز الحقيقي لا فوز الصراعات الكروية والمسابقات الفنية والرياضية!
¥