قلت: إذا تقرر هذا، وعُلم أن ظاهر هذا اللفظ لا يقتضي ما توهمه أهل الحلول والاتحاد، فلا موجب للقول بأن تفسير السَّلف للمعية الواردة في الآيات من باب التأويل - الذي هو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح لدليل يقترن به -، وإنما يقال: اللفظ باق حقيقته، فالله مستو على عرشه حقيقة، وهو معنا حقيقة. قال شيخ الإسلام في «الواسطية»: "كُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (فِي السَّمَاءِ) أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ".

وقال الإمام أبو عبد الله بن منده: " .. فإن قيل: قد تأولتم قوله عز وجل: " وهو معكم أينما كنتم " وحملتموه على العلم؟. قلنا: ما تأوَّلنا ذلك، وإنما الآية دلت على أن المراد بذلك العلم، لأنه قال في آخرها: " إن الله بكل شيء عليم " " نقله أبو القاسم الأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (2/ 290 - 291).

على أنه لو قيل: إن هذا من باب التأويل – كما ذهب إليه بعض أهل العلم -، فهو من التأويل الذي له دليل نقلي أوجبه.

قال شيخ الإسلام: " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّا لَا نَذُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ وَإِنَّمَا نَذُمُّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ.

وَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُفَسَّرَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ بِظَاهِرِ الْأُخْرَى وَيُصْرَفَ الْكَلَامُ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَأْوِيلًا وَصَرْفًا عَنْ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ؛ لَيْسَ تَفْسِيرًا لَهُ بِالرَّأْيِ، وَالْمَحْذُورُ إنَّمَا هُوَ صَرْفُ الْقُرْآنِ عَنْ فَحْوَاهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِسَالَةٌ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ ذِكْرُ الْآيَاتِ الَّتِي يُقَالُ: بَيْنَهَا مُعَارَضَةٌ وَبَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ أَوْ حَمْلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْمَجَازِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي نَفْسِ الْمَعِيَّةِ وَيَقُولُ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضًا، لَكِنْ نَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَعِيَّةِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا جَمِيعَ اسْتِعْمَالَاتِ " مَعَ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تُوجِبُ اتِّصَالًا وَاخْتِلَاطًا فَلَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ نَجْعَلَ ظَاهِرَهُ الْمُلَاصَقَةَ ثُمَّ نَصْرِفَهُ ". «مجموع الفتاوى» (6/ 19 - 22).

ـ[محمد براء]ــــــــ[19 Nov 2008, 11:39 ص]ـ

مسألة المعية بالذات صنف فيها الشيخ أحمد بن المبارك السجلماسي كتابا كاملا، ليبين عدم استحالتها، بالمفهوم الصحيح، وأنه لا إجماع على كون المعية بالعلم .. وهو كتاب فريد ـ على عادة كتبه ـ يستحق النظر والتأمل.

كيف غير مستحيلة؟! وما هو المفهوم الصحيح هذا!!.

والإجماع على كون المعية بالعلم نقله جمهرة من العلماء.

وإذا كنت لا تعتد بالإجماع الذي حكاه علماء أهل الحديث، فقد حكى الإجماع أيضا بعض أئمة الأشعرية كالغزالي في الإحياء وابن الخطيب وابن عطية وأبو حيان في تفاسيرهم رحمة الله عليهم.

قال في الإحياء: ما نَصُّهُ: " قوله تعالى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ ? حُملَ بالاتفاق على العلم والإحاطَةِ " ا. هـ كلامه بلفظه.

وقال ابن عطية في «تفسيره» ما نَصُّهُ: " قولُهُ تعالَى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ ? مَعناهُ: بقدْرَتِهِ وَعلمِهِ وإحاطَتِهِ، وهذِه آيةٌ أجمَعتِ الأُمَّةُ على هَذَا التَّأويلِ فِيهَا، وأنها مُخرَجَةٌ عن مَعنَى لفظِهَا المعهُودِ، ودخَلَ في الإجماعِ من يقُولُ بأنَّ المُشتَبِهَ كُلَّهُ ينبغِي أن يُمَرَّ ويؤمَنَ بِهِ ولا يُفسَّرَ، فقد أجمَعُوا على تأويلِ هذِهِ لبيانِ وُجُوب إخراجِها عن ظاهِرِهَا.

قال سُفيانُ الثَّوريُّ: " معناهُ: علمُهُ معكُم " ا. هـ كلامه بلفظه.

وقد عقد الشيخ محمد بن أبي مدين الشنقيطي رحمه الله تعالى فصلاً كاملاً نقل فيه كلام العلماء في الإجماع على هذا التفسير، وذلك في كتابه: شَنُّ الغَارَات على أهلِ وحدَةِ الوجُودِ وأهلِ المعيَّةِ بالذََّات

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015