وأعظم توفيقاً،" وأن هذا المنهج يمثل تقارباً بين الثقافات، يأمل أن "يعقبه فهم أرحب مجالاً، ونزوع إلى الإنسانية أكثر امتداداً، حيث تتجمع القلوب، من هنا وهناك، وتتشابك الأيدي لخير بنى الإنسان."
لقد كان موضوع البحث عند "دراز"، هو ما سمّاه "منظومة الأخلاق في القرآن الكريم." ومع أن الموضوع معروف ومطروق، وهو موضوع قرآني بامتياز، وقد كتب فيه كثير من علماء المسلمين من: الفقهاء، والمتصوفة، والفلاسفة، والمتكلمين ... فإن مصطلحات مثل "منظومة الأخلاق"، أو "النظام الأخلاقي"، أو "قانون الأخلاق"، أو "دستور الأخلاق"، أو "النظرية الأخلاقية"، هي مصطلحات جديدة. فلا بد من تعرّف أصول هذه المصطلحات وتطورها في الفكر المعاصر، مع ملاحظة أن مرجعية الفكر المعاصر مرجعية غربية إلى حد كبير. وبذلك أصبح منهج المؤلف في البحث منهجاً مقارناً، فهو يبحث عن "دستور الأخلاق في القرآن الكريم" بمرجعية قرآنية صرفة، وهو يبحث في تراث علماء الأمة الإسلامية، لعل أحداً منهم قد كشف عن هذا الدستور من قبل، وهو ينظر في أدبيات الأخلاق عند الغربيين السابقين والمعاصرين، ويجتهد في تحديد موقعها من "دستور الأخلاق في القرآن الكر يم."
على أن من أهم ما يعنينا في نتائج البحث، هو الكشف عن منهج القرآن الكريم في تأصيل موضوع القيم والأخلاق. وهل ثمة منهج أفضل من منهج القرآن هادياً إلى المنهج الذي نبحث عنه، أو نسعى إلى تطويره، ليسعفنا في إحسان التعامل مع الفكر المعاصر، وقضايانا المعاصرة؟!
لقد أشرنا في بدء الحديث عن كتاب دراز إلى الجوانب الثلاثة لما سمّاه دراز "أصالة" القرآن في الحديث عن الأخلاق، ولعلنا نختم الحديث بتحديد ما نراه عناصر أساسية في منهج رسالة القرآن في بناء المنظومة الأخلاقية، وذلك على الوجه الآتي:
1. استرجاع التراث الأخلاقي للرسالات الإلهية السابقة، والإشادة بها، وربطها ضمن حلقة متصلة من العناية الإلهية بأجيال البشرية.
2. تصحيح ما علق بهذا التراث من أخطاء بسبب طول الأمد، والنسيان، والانحرافات، والتحريفات، حتى تبدو منظومة تتصف بالانسجام والتماسك.
3. توضيح جوانب التنوع في حدود التشريعات الأخلاقية، على اختلاف الزمان، والمكان، والأقوام، وطبيعة الاختلالات التي كان تسود السلوك البشري.
4. إعادة بناء المنظومة الأخلاقية في صورة جديدة، تجمع بين الثبات والاستقرار لمتطلبات الحياة الأخلاقية من جهة، والمرونة التي تسع مستويات الجهد البشري ودرجاته المتصاعدة من جهة أخرى.
5. مخاطبة الكينونة البشرية بالتشريعات الأخلاقية، بطريقة تربطها بالفطرة السليمة والعقل الرشيد. فالتكاليف الأخلاقية كلها من المعروف بالفطرة، ومن المقبول بالعقل.
قليلة هي البحوث المنهجية المتميزة، التي يمكن أن تضيء الطريق أمام الباحثين وتوفر لهم نماذج من الإبداع، وتجعل أمر الإبداع ممكناً. وقليلة هي البحوث التي سلكت منهجاً في التأصيل الإسلامي، الذي يستند إلى مرجعية قرآنية. ونحن نرى أن كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" للشيخ محمد عبد دراز واحدٌ من هذا القليل، ونلاحظ كذلك أن هذا الكتاب لم ينل حظاً من العناية به، يتناسب مع مستوى أهميته. ولعل في هذا التذكير بعض الوفاء للكتاب وللمؤلف، بعد مرور نصف قرن على وفاته.
ـ[يسري خضر]ــــــــ[29 Oct 2008, 09:39 م]ـ
جزي الله شيخنا الدكتور عبد الرحمن خير الجزاء وقد ذكرني قوله
(د. محمد عبدالله دراز (ت1378هـ) العالم المسلم الكبير قامةٌ علميةٌ قلَّ من عرف قيمته من طلبة العلم المعاصرين، وأراه لا يزال في حاجة ماسة إلى إلقاء المزيد من الأضواء على بحوثه ومؤلفاته الفريدة المتميزة "بقول العلامة يوسف القرضاوي (ينطبق عليه ما يكتبه الاولون عن علمائهم ومؤلفيهم فهو العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ... أحاط بعلوم الدين من التفسير والحديث والتوحيد والأصول والفقه وبعلوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة وبالأدب وتاريخه وبالعلوم الإنسانية العصرية ... جمع بين الأصالة والمعاصرة فإن شئت نسبته إلي جامع الازهر فهو ابنه البار وإن شئت نسبته إلي جامعة السربون فهو من خريجيها الذين تعتز بهم وتفخر بانتمائهم إليها)
وقال عن كتابه النبأالعظيم "لم ينسجه على منوال أحد،كما لم ينسج أحد علي منواله "
فرحمه الله رحمة واسعه
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[29 Oct 2008, 11:33 م]ـ
جزاكم الله خيرا يا أبا عبد الله.
وما زلت أطالع بتدبر كتاب (الميزان بين السنة والبدعة) للدكتور دراز رحمه الله.
وهو فعلا كاتب متميز، وقد وجدته مصداقا لما ذكره د. محمد رجب البيومي في مقاله المدرج في الكتاب، حيث وصفه بالباحث المنهجي المتفرد. وقال عنه:
"كان طرازا خاصا من المفكرين، حيث لم يكتب غير الجديد الطريف الذي لم يسمع به القارئ من قبل، مهما تنوعت ثقافته واتسع إدراكه ... "
"لقد عهدنا أناسا من الكتاب يكثرون المؤلفات تباعا، ولكنهم يجمعون ويلخصون، فقارئهم الدارس يردّ كل جملة إلى موضعها، ويعرف خلاصة ما يقرأ قبل أن يلِمّ به، وما أكثر هؤلاء فيمن تتردد أسماؤهم في كل مناسبة ... "
"إنه يؤثر البحث الهادئ دون عحلة، ويضع الخطة المحكمة دون تسرع، ولا يهمه طال الأمد او قصر ... "
" ... العبرة لدى الدارسين تعظم بجودة التأليف لا بكثرته، وبطرافته لا بتقليديته .. "
¥