لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح، وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة.
وقد نهج المؤلف في معالجته للموضوع منهجاً يلائم السياق العلمي الذي جاء بحثه فيه، فهو يقدم بحثاً إلى جامعة السوربون في باريس، ويوجه خطابه إلى مجموعة من الأساتذة الفرنسيين، ومنهم كبار المستشرقين في تلك الفترة الزمنية مثل: ماسنيون، ولوسن، وفالون، وفوكونيه. ولذلك تجده ينطلق في بحثه من الإطار النظري الشائع في الدراسات الغربية المعاصرة، ويناقش آراء العلماء الغربيين ونظرياتهم، محللاً المنطق الذي تستند إليه هذه النظريات، وما يصاحبها من جوانب الصواب والحكمة، أو جوانب القصور والخلل. ثم يقدم رؤيته للنظرية الأخلاقية الإسلامية، لافتاً الانتباه إلى ما تتصف به من حكمة وكمال. وهو منهج في تأصيل قضايا البحث تأصيلاً إسلامياً، ربما لا نجده عند الباحثين المسلمين الذين يجرون بحوثهم في سياقات أخرى، ويستهدفون في خطابهم جمهوراً مختلفاً. ونتوقع أن ينهج منهجَ دراز الباحثون المسلمون الذين يجدون أنفسهم في السياق نفسه، حين يجرون بحوثهم في الجامعات الغربية.
ولعل ذلك أن يكون موضوعاً بحثياً مستقلاً، يدرس عينة من الباحثين الذين درسوا في الجامعات الغربية، وتناولوا قضايا اجتماعية أو نفسية أو فلسفية أو تربوية، ويكون الهدف من البحث الكشف عن المناهج التي استخدمها الباحثون في معالجة هذه القضايا، ومناهج التأصيل التي ربما نهجوها.
في مطلع الكتاب يؤكد المؤلف أن ثمة غرضاً محدداً من تأليف كتابه، وأن الكتاب سوف يأتي بجديد، يضيف إلى المكتبة الأوروبية والمكتبة الإسلامية على حد سواء؛ "فإذا لم يأت عملنا هذا بشئ جديد في عالم الشرق أو الغرب، فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقال."
سوف يأتي الكتاب بجديد في المكتبة الأوروبية؛ لأن المؤلفات الغربية في علم الأخلاق تشهد "فراغاً هائلاً وعميقاً، نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني ... " وهذا لا يعنى بالضرورة عدم وعي المؤلف بوجود كتابات أوروبية عن الأخلاق في الإسلام، فهو ينوه ببعض الكتابات الأوروبية التي عالجت مسائل تتعلق بالإسلام، وبما تضمنته من محاولات محدودة لترجمة بعض الآيات القرآنية ذات العلاقة بالعبادة أو بالسلوك، لكن هذه الكتابات اعترتها عيوب كثيرة في الترجمة أو في النتائج، ولذلك فإن المؤلف يريد أن يتناول الموضوع ويعالجه "من أجل تصحيح هذه الأخطاء، وملء هذه الفجوة في المكتبة الأوروبية، وحتى نُرِيَ علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا."
على أن المؤلف لا يستبعد حاجة المكتبة الإسلامية لمثل هذا العمل أيضاً، حين يشير إلى أن هذه المكتبة لم تعرف في موضوع الأخلاق إلا مادة من النصائح العملية، أو وصفاً لطبيعة النفس وملكاتها، حسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وبذلك تبقى المكتبة الإسلامية بحاجة إلى دراسة النص القرآني بصورته الكاملة للوصول إلى النظرية الأخلاقية في القرآن.
وفي الحالتين، لا يصل المؤلف إلى هذه النتيجة، حول حاجة كل من المكتبتين: الأوروبية والإسلامية إلى عمل كامل في النظرية الأخلاقية القرآنية، إلا بعد أن يذكّر بالكتابات المتوافرة، ويوثق ما يراه من أهم مراجعها، مما يشهد للمؤلف بالاطلاع والتمكن من التراثين: الإسلامي والأوروبي -في مسألة الأخلاق- على حد سواء.
وقد تضمن وصف المؤلف لمنهجه في العمل، اعترافه بأن تصوره للمنهج في البداية كان يقتصر على "عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وربما من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّن الأول، الثقة." لكنه عدّل في هذا المنهج بناء على اقتراح أستاذه "لويس ماسنيون"، الذي رغب في أن تتضمن الدراسة تناولَ بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة. ثم جاء اقتراح ثانٍ من أستاذ آخر هو "رينيه لوسن" بأن يجري مقارنة للنظرية الأخلاقية المستمدة من القرآن ببعض النظريات الغربية، وقد رأى المؤلف أن ما طلباه كان "مقترحات موفقة"، وأن عمله بهذه المواصفات أصبح "أرحب مدى
¥