ونظرا لاتساع الموضوع وصعوبة الحديث عن كافة جوانب الحوار وأبعاده في بحث واحد، فسنحاول فيما يلي من سطور - بعون الله وتوفيقه - دراسة بعض أصول الحوار مع الآخر، وأعني به غير المسلمين، في ضوء الآيات القرآنية وفق منهج التفسير الموضوعي.

1 - الإيمان بوحدة أصل الأديان السماوية:

من الأصول الثابتة في الإسلام الإيمان بأصل وحدة الأديان السماوية التي أنزلها الله – سبحانه وتعالى – منذ فجر تاريخ البشر على وجه المعمورة وكلف الأنبياء عليهم والسلام بتبليغها والدعوة إليها، قال تعالى: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? [29] فالإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام من مستلزمات العقيدة الإسلامية، ولن يكون المسلم مسلما إذا لم يؤمن بالأنبياء عليهم السلام جميعا، ولاشك أن هذا الإيمان يشكل أساسا لتعامله مع الآخرين من أهل الكتاب، قال تعالى: ?قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ? [30] فأصل الإيمان برسالات الأنبياء السابقين في صورتها الحقيقية البعيدة عن التحريف والتبديل يشكل نقطة الانطلاق لدى المسلم في نظرته للآخر غير المسلم من أهل الكتاب وغيرهم والتحاور معهم.

ومن يحاور أتباع الأديان السماوية يجب أن يضع هذا الأصل نصب عينيه، فالأديان السماوية في أصولها الصحيحة ودعوتها إلى الإيمان بمبادئ الحق والخير والعدل واحدة، وكان الاختلاف في التفاصيل والجزئيات الفرعية التي اقتضتها مراعاة تطور البشرية وتقدمها العقلي والحضاري.

قال تعالى: ?شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ? [31] وبناء على هذا الأصل الذي يضبط الحوار من بدايته وتتحدد علاقة المسلم بشكل عام والمسلم المحاور بشكل خاص بغيره في نقطتين:

أولا: هو يقر بما صح نزوله على الأنبياء السابقين، بمعنى أنها في الأصل من عند الله عز وجل، قال تعالى: ?نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ? [32]، وهاتان الآيتان الكريمتان تقرران وحدة أصل الدين ووحدة الحق الذي اشتملت عليه الكتب المنزلة من عند الله تعالى - كالتوراة والإنجيل - قبل أن تعبث بها أيدي التحريف والتبديل؛ ولذلك أنزل الله تعالى القرآن "بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" أي للتوراة والإنجيل، وهذه الكتب الإلهية (القرآن والتوراة والإنجيل) غايتها واحدة، وهي هداية الناس، "هُدًى لِلنَّاسِ".

وهذا الكتاب الأخير، أي القرآن، هو "الْفُرْقَان"، بيّن الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة السابقة والباطل المتمثل في الانحرافات والشبهات التي ألحقت بتلك الكتب بفعل الشهوات والشبهات وعبث أيدي التحريف والتبديل.

ثانيا: ضرورة إقامة الدين الحق ونبذ الافتراق من خلال تصحيح التحريفات الحاصلة في الكتب السماوية السابقة، وذلك من خلال عرض محتويات تلك الكتب على أسس ومبادئ الأديان المتفق عليها من الحق والتوحيد والخير والعدل والأخلاق، والتي جاءت في القرآن الكريم في أوضح وأدق صورها، وهو - أعني القرآن - قيم ومهيمن على الكتب السابقة.

ولا شك أن إدراك أصل وحدة الأديان السماوية من قبل المتحاورين والشعور بارتكاز تلك الأديان على المبادئ المشتركة عامل مؤثر إيجابي على سير الحوار منذ البداية، حيث إن الجميع ينطلقون من أرضية مشتركة توفر لهم قدرا كبيرا من الشعور بالتفاهم والتفهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015