ومن الحشرات العجيبة فى القرآن الكريم/ نملة سليمان، إذ قالت - حين حشر لسليمان من الجن الإنس والطير وأتوا على واد النمل: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) ([24]) فجمع الله على لسانها فى هذه اللفظة أحد عشر جنساً من الكلام. نادت، وكنت، ونبهت، وسمت، وأمرت، وقضت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وغدرت، فالنداء "يا" والكناية "أى" والتنبيه "ها" والتسمية النمل، والأمر "إدخلوا" والقصص "مساكنكم" والتحذير "لا يحطمنكم" والتخصيص سليمان، والتعميم جنوده، والإشارة "وهم" والغدر لا يشعرون. فأدت خمس حقوق: حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان. فحق الله أنها استرعيت على النمل فقامت بحقهم، وحق سيمان أنها نبهته على النمل، وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود فى نصحهم، وحق الجنود بنصحها لهم ليدخلوا مساكنهم، وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من استرعاه رعية فوجب عليه حفظهما والذب عنها وهو داخل فى الخبر فى المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ([25]).
ولذلك تبسم سيدنا سليمان ضاحكاً من قولها وقال - ما قصه القرآن الكريم - (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) النمل: 19، قال جار الله الزمخشرى: "أضحكه من قولها شيئان: إعجابه بما دل من قولها علىظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم وعلى شهرة حاله وحالهم فى باب التقوى وذلك قولها: (وهم لا يشعرون) تعنى: أنهم لو شعروا لم يفعلوا، وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحد من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذى هو مثل فى الصغر والقلة ومن إحاطته بمعناه" ([26]) ففى هذه القصة خارقتان: خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها، وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده، وهذه خارقة أعجب، لانها خاصة خارجه على المألوف فى عالم الحيوان ([27]).
ومن العجائب التى جاء ذكرها فى القرآن الكريم: هدهد سليمان: ذلك الطائر العجيب الذى قال لسليمان - ماقصه القرآن الكريم -: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ* أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) النمل:
إننا هنا "أمام هدهد عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان وبراعة فى عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعيه ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله، ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذى يخرج الخبأ فى السموات والأرض، ويعلم السر والعلن، ويدرك أن الله وحده هو رب العرش العظيم، وما هكذا تدرك الهداهد إنما هو هدهد عجيب .. هدهد خاص أوتى هذا الإدراك الخاص على سبيل الخارقة التى تخالف المألوف" ([28]).
والرائع حقاً: أن الهدهد - وحده من عالم الطير - هو الذى إكتشف مملكة سبأ، وجاء لسليمان بذلك النبأ اليقين، والهدهد يتسم بجمال لونه البديع، ويرى الماء يجرى فى تخوم الأرض وداخلها، واسمه يتألف من حروف نراها فى لفظة (الهداى) ولفظة (الهداية)، وقد جاء - هنا - فى مقام الهدى والهداية، حتى إنه ليقول: (فهم - أى بلقيس وقومها - لا يهتدون)، وكانت إحاطته بنبأ هذه الملكة هى البداية لخروجها من ظلمات الكفر وعبادة الشمس إلى نور الإيمان والهدى وكانت نهاية المشهد الذى قصه القرآن هو قولها: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل:44.
¥