و (الذين من قبلنا) قيل: أهل الكتاب، وقيل: النصارى، وقيل: الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، والقول الأول مروي عن ابن عباس.

وأيا كان القول فإن للتشبيه بمن سبق أغراضًا عديدة ذكرها المفسرون، ومما ذكروه مما يتعلق بمقصدنا أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ((والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله)) كما قال الرازي، وقال أبو السعود: ((فيه تأكيدٌ للحكم وترغيبٌ فيه وتطييبٌ لأنفس المخاطبين به، فإن الشاقَّ إذا عمّ سهُل عملُه))، وقد قالت الخنساء:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

ومن أغراض التشبيه ما ذكره ابن كثير قال: ((ذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48])).

7 - التعليل في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لـ (كُتب).

والشيء الذي تظهر حكمته يكون أداؤه أخف على النفوس -ولو كان شاقًا- من الذي لم تظهر له حكمة، كيف والحكمة التي من أجلها شرع الصيام أمر يرغبه أهل الإيمان ويسعون في تحقيقه، وقد أمروا به من قبل، وذكر لهم ما يحببهم إليه ويرغبهم فيه، وقد سبق آيات الصيام في سورة البقرة الأمر بالتقوى في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وسبق آيات الصيام في النزول الترغيب في التقوى في قول الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقوله في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} وقوله في سورة يونس: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} وكذلك قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وغيرها من الآيات التي ترغب المؤمن في تحقيق التقوى.

وفي هذا الموضع فائدة ذكرها أبو حيان في البحر المحيط عند قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: ((إذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: {يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ} وجاء عقيب قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصِّيَامُ} {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقبله {وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ} ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء، فإنه من محاسن علم البيان)).

8 - التعليل جاء بـ (لعل)، وهي تستعمل للتعليل، وتستعمل أيضًا للترجي، والترجي فيه توقع وترقب لحصول الشيء، والتعليل له أدوات أخرى غير (لعل)، ولعل التعليل بها دون غيرها من أدوات التعليل لما تحمله من معنى الترجي، حيث يشعر العباد بقرب حصول العلة (التقوى)، وفي ذلك ترغيب لهم بالصيام وتيسير له.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015