من يتأمل الوصف القرآني لمصر يجد أنها كانت ميناءا بحريا، حيث كانت تطل على ساحل البحر، وتحديدا ساحل بحر القلزم أو البحر الأحمر كما يسمى اليوم، فقد أوحى الله إلى أم موسى عليه السلام، أن تقذفه في اليم، أي في البحر، حتى يلقيه اليم بالساحل، أي على شاطئ البحر، قال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 37: 39]، والساحل هو شاطئ البحر، وإن جاز أن يكون شاطئ نهر أيضا، إلا أن الفترة الزمنية كانت قصيرة فيما بين هروب بني إسرائيل ليلا قال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) [الدخان: 23]، وبين خروج فرعون ورائهم عند الشروق قال تعالى: (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) [الشعراء: 60]، أي بمتوسط فارق زمني قدره حوالي عشر ساعات تقريبا. قال ابن كثير: (وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر).

ثم تراءى الجمعان لبعضهما البعض، قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61: 62]، فلا يمكن على وجه الإطلاق أن يرى بعضهم بعضا عن بعد وقد حل عليهم الظلام، فإذا كانت الفترة الزمنية محدودة بين هروبهم وبين خروج فرعون ورائهم، فلابد أن فرعون لحق بهم قبل دخول الليل على أبعد تقدير.

فإذا كانت الفترة الزمنية محدودة بين مدينة مصر، وبين مكان العبور على البحر الأحمر، فيما يعادل مسيرة نصف يوم، فحتما أن هذه المدينة تقع على ساحل البحر مباشرة، فلا يمكن أن تكون المسافة قصيرة إلى البحر، بينما تقع المدينة بعيدا عن الشاطئ إلى داخل اليابسة، بل يجب أن تقع على ساحل البحر مباشرة، لأن البحر مصدر رزق وكسب.

وهذا يدل على أن طريق الهروب كان موازيا لشاطئ البحر، من مدينة مصر إلى مكان العبور، إذن فقوله تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) يشير إلى أن المقصود باليم هو البحر وليس النهر، وأن الساحل هنا هو شاطئ البحر الأحمر، وليس شاطئ نهر النيل، مما يؤكد أن مصر كانت ميناءا بحريا تجبى إليه البضائع والسلع من أنحاء المعمورة.

فالمسافة كانت قصيرة بين مصر والمعبر، مما يمكن فرعون وجنوده من اللحاق بهم، خاصة وأنهم مسرعين على دوابهم التي تفوق سرعة بني إسرائيل المتعثرين في خطواتهم بسبب ما يحملونه من متاعهم، بخلاف الضعفاء منهم من العجائز ونسائهم وأبنائهم، ولا يصح أن استغرق اللحاق بهم زمنا أطول من يوم.

ففي السلسلة الصحيحة من حديث أبو موسى الأشعري (أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟) فقال أصحابه: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: قال: (إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: نحن نحدثك؛ إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا يخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا عجوز من بني إسرائيل. فبعث إليها، فأتته. فقال: دلوني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها. فانطلقت بهم إلى بحيرة، موضع مستنقع ماء. فقالت: انضبوا هذا الماء، فأنضبوا. قالت: احفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض، إذ الطريق مثل ضوء النهار).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015