وقد يكون من هذه الأقباس أيضا ما يفهم من المثل الآتي الذي أورده لوقا في إنجليه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام من أنه لا مسؤولية بدون علم، وعلى قدر العلم تكون المسؤولية، إذ مع العلم ينتفي العذر ويحق على المذنب العقاب. أما من لم يبلغه العلم فهو معذور: "فقال الرب: فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله. لكن إن قال ذلك العبد في قلبه: سيدي يبطئ قدومه. فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين. وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا. فكل من أعطى كثيرا يطلب منه كثير، ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر". وفي مثل هذا المعنى ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان سيدنا عيسى أيضا عليه السلام: "قال لهم (للفريسيين) يسوع: لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون: إننا نبصر. فخطيتكم باقية". فالعمي هنا هو عدم المعرفة، أما الإبصار فهو العلم بالواجبات والمسؤوليات. ويشبه هذا في خطوطه العامة قول بولس في رسالته إلى العبرانيين: << فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة"، إذ مع معرفة الحق والباطل والصواب والخطإ ينتفي العذر، وعلى هذا فلابد من العقاب ما دام الآثم قد اجترح الإثم عن اختيار.

فإذا انتقلنا إلى القرآن فإننا نجده يذم اليهود ذما شديدا لإقدامهم على تحريف الوحي مع علمهم أن هذا إثم فاحش: "كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"، وينذرهم قائلا: "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون". كما نجده يحذر المؤمنين من الإشراك بالله بعدما علموا أن التوحيد حق: "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون"، ويوجه نظر الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل ضرب المثل إلى أنه "لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير " و " لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ".

وقد فهم المرحوم الشيخ شلتوت من قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيت له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم. وساءت مصيرا" أن من لن يعلم بالحق بمعنى أنه لم يبلغه أو بلغه وعلم به ولكن على نحو محرف، أو علم به على وجهه الصحيح ولكنه لم يستطع الاقتناع به رغم أنه لم يقصر في ذلك على مدى عمره فهذا لا يناله الوعيد الإلهي بالإصلاء في جنهم". ومثله قول الشيخ محمد عبده إن الإسلام يجعل من النظر العقلي وسيلة الإيمان الصحيح، حتى لقد قال قائلون من أهل السنة: "إن الذي يستقصى جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن فهو ناج".

من هذا كله نرى أن العلم هو أساس المسؤولية، وأنه لا مسؤولية بلا علم، على أن يكون مفهوما طبعا أن العلم والسعي إليه هو واجب على كل مسلم ومسلمة. أما في الكتاب المقدس فإن معرفة الشريعة إنما تستمد من الكاهن، "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود". وهو فرق جد هام بين القرآن والكتاب المقدس فيما يختص بهذه المسألة.

والآن بعد أن اتضح لنا موقف كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ورأينا أنه على حين يطرد تمجيد القرآن للعلم نجد أن هذا الاطراد معدوما في الكتاب المقدس، ننتقل إلى موقف الكتابين من منهج البحث في العلوم، إذ قد يقول قائل إن مجرد الحث على طلب العلم وتفضيله على غيره من النعم هو كلام عام، فنحب أن نرى هل يمكن أن نعثر في كل من الكتابين على توجيهات وأفكار محددة من شأنها أن تنزل بنا من أفق التعميم إلى أرض المنهج الصلبة.

وقبل أن نبحث عن الآيات المتصلة بهذا الموضوع علينا أن نعرف معنى "التفكير العلمي" ونلم بخصائصه إلماما سريعا.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015