والرأي المشتهر والمتعارف عليه هو أن المراد من "ما" هنا "من" وهي عائدة على الله سبحانه وتعالى, أي أن الله تعالى أقسم بخلقين من مخلوقاته ثم أقسم بعدهما بنفسه بصيغة غير العاقل! وهذا الفهم مأخوذ من فهمهم لسورة الشمس, عندما فهموا قوله تعالى "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها", فقالوا: المراد من "ما سواها" هو حتما الله سبحانه وتعالى! والعجيب أن "ما" لا تستعمل أساسا في اللغة إلا مع غير العاقل, وهم يقرون بذلك, ويرون أن هذا هو الإساس ولكنهم يستثنون ويقولون بجواز استعمالها مع العاقل! فعلاما استندوا في قولهم هذا؟ العجيب أنهم استندوا إلى الآيات التي نحن بصددها, فهم يستدلون بموطن خلاف ليثبتوا قاعدة استثنائية, أما نحن فنرى أن "ما" لا تستعمل إلا مع غير العاقل, ومن الممكن أن تستعمل مع العاقل إذا كان مبهما أو من باب المشاكلة, وبداهة لا يمكن أن يكون الله عزوجل مبهما فهو أعرف المعارف. أما نحن فنسير تبعا لقواعد اللغة العامة ونقول: المراد من "ما" هنا حتما شيء غير عاقل, فما هو هذا الشيء؟ الإجابة المنطقية على هذا السؤال أن الذي خلق الذكر والأنثى –بأمر الله وتقديره وإرادته- هو النطفة, فالله تعالى يقول في سورة القيامة "أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى [القيامة: 39 - 37] " ففي سورة القيامة نسب الله تعالى الفعل إلى نفسه, وهنا نسب الفعل إلى النطفة نفسها. ولا حرج في هذا الأمر, فالله تعالى ينسب الفعل أحيانا إلى نفسه لأنه هو الفاعل الحقيقي المؤثر المقدر, وأحيانا ينسبه إلى المباشر, كما ينسب التوفي إلى نفسه وإلى الملائكة! لذا فإني أرى أنه لا حرج أن يكون المراد من "وما خلق الذكر والأنثى" هو النطفة. وهنا يتجدد السؤال مرة أخرى: إذا قبلنا بهذا الرأي, فما العلاقة بين الليل والنهار والنطفة؟

نقول: أولا: على قولنا هذا فالترتيب تنازلي من الأكبر إلى الأصغر, فالليل أعم وأشمل من النهار والنهار أكبر بكثير من النطفة.

ثانيا: الله عزوجل يقدم بهذه الآيات تشبيها عجيبا لاختلاف أفعال الناس, فهناك الليل المظلم وهو إشارة إلى أفعال الشر والضلال, وعلى العكس من الليل فهناك النهار المضيء, والنهاروالليل والنهار كلاهما يشكلان وحدة واحدة في منظومة بناء الكون يتعاقبان فيعم هذا ثم ينسحب ويأتي ذاك, فهما في تسابق وتداخل إلى يوم القيامة. وعلى الرغم من اختلاف الليل والنهار في الطبيعة والحجم فإنهما مكملان لبعضهما منشئان شيئا واحدا وهو اليوم. ثم ينتقل الله تعالى نقلة نوعية كبيرة إلى النطفة الصغيرة الحقيرة والتي منها ينشأ الإنسان, فيقول للإنسان أنه قد يأتي من هذا الواحد الصغير تنوع واختلاف, على العكس من الإثنين الكبيرين, الذين منهما نشأ شيء واحد! إذا فالعلاقة بين هذه المقسمات بها هو الاختلاف في الطبيعة, فهناك النقيض الذي يكون مع نقيضه واحدا, وهناك الصغير الذي يتكون منه النقيضان.

ـ[عمرو الشاعر]ــــــــ[08 Jul 2008, 10:24 ص]ـ

وفي هذه الآيات إشارة عظيمة في الليل وما خلق الذكر والأنثى, فالليل إشارة إلى عظم وكبر الضلال وخسرانه, فقد يقدم بعض الناس من الأفعال الكثير والعظيم والهائل ولكنها لغير الله عزوجل فهي سوداء مظلمة لا نفع فيها "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: 104 - 103] " فانظر إلى حجم الليل وعلى الرغم من ذلك لأنه ظلام فهو لم ينفع صاحبه, وانظر إلى صغر النطفة وعلى الرغم من ذلك فلقد نشأ منها ما لا يقارن بها, فلا وجه للمقارنة بين حجم النطفة التي لا ترى وبين حجم الإنسان البالغ, وفي هذا إشارة إلى مضاعفة ثواب وحجم الأجر على العمل الصالح الذي يعطيه الله عزوجل للمتقي المنفق, وهذا مشابه لقوله تعالى "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015