إن قيمة هذا الدرس القرآني في البناء النفسي والإعداد القبلي، يشعر المتلقي للخطاب القرآني بأن الإنسان هو سيد نفسه كما هو سيد هذه الأرض، وعمرانها مرتبط أساسا بمدى استعداده وأهليته، وإن صلاحها وفسادها منوط بصلاحه وفساده، من حيث ما بنيت عليه روحه من عقائد وأخلاق توجه سلوكه العملي. ومما يؤكد ذلك ما فسرت به شبيهة الآية السابقة وهي قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) (3) التي تقرر عدل الله في معاملة العباد، بحيث لا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم، كما تقرر تكريم الله للإنسان، حيث جعل قدره ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وأعمالهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم ... وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانبا من جوانب التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان وعلاقة قدرة الله به في هذه الوجود) (4).
وهي من جهة أخرى بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري، إذ يبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية وبما في معناها، ويثبت لهم أن نعمه تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العوائد و الأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال، غير الله عندئذ ما بأنفسهم وسلبهم نعمته وهذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم وهو كذلك في الأفراد (5).
فإن الله لا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة او مهابة، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيعير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم (6).
فمعنى التغيير في الآيتين، أن الأمة التي تريد أن يحول الله عنها حالا لا ترضاه لمجتمعها، يجب أن تغير من نفسيتها أولا، فإن فعلت حول الله عنها ما تكره، ووجه إليها من نعمه ما تحب (7). وذلك وفق السنن والنواميس التي تحكم الحياة البشرية في إطار سنن حكيمة ترتبط بمشيئة الله سبحانه وتعالى أولا، وبالفعل البشري سلبا وإيجابا فردا وجماعة في كل زمان ومكان، وبموجب ذلك تتشكل حركة التاريخ الذي هو في نهاية المطاف سجل مستوعب للمواقف والتصرفات الاجتماعية بكل أشكالها وأنواعها (8).
فإذا قرر القرآن أن السلوك الإنساني أثر ونتيجة لما بنفسه وأن للإنسان قدرة على تغيير ما بالنفس (9). فإن معنى هذا أن الإنسان في هذه الحياة رهين سلوكه وموقفه من القوانين والسنن التي أودعها الله في خلقه، فقد ربط الله بين الأسباب والمسببات خلقا وقدرا بمشيئته وحكمته لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها، فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب. وقد ذكر لنا القرآن الكريم تطبيق هذا في قوم يونس بقوله تعالى: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة والدنيا ... ) (10) فالآية جعلت المبادرة إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر، سببا لكشف العذاب، لأنهم أبطلوا سببه، وأر شدنا الحق سبحانه وتعالى إلى سنته تلك في الأمم والأقوام بقوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض) (11). التي تنص على كون الإيمان والتقوى العلاج الوحيد، الذي بسببه يحول الله السيئ إلى الحسن، لأن التزامهما إقلاع عن أسباب العذاب (12).
يتبع مستقبلا بمشيئة الله.
..........................................
1 - الرعد 12
2 - التفسير الحديث 7/ 50 تأليف: محمد عزة دروزة. ط. الأولى 1381 هـ/ دار الكتب العربية القاهرة.
3 - الأنفال 54.
4 - تفسير الظلال 4/ 37 بتصرف.
5 - تفسير المنار 10/ 37 - 38 - وانظر 2/ 280 من التفسير نفسه.
6 - تفسير الظلال 5/ 78 ويضيف وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم فقد قضت بذلك مشيئته وجرت بها سنته.
7 - انظر مناهل العرف (ان 2/ 284، تأليف محمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية ط الثالثة. د. ت
8 - من الإشكالات المفهومية (مفهوم لفظ التغيير في الآيتين هل هو لمطلق التبديل والتحويل أم لتبديل خاص فقط وهو التحويل من الحسن إلى السوء، والظاهر من السياق في الآيتين أنه لتبديل خاص وهو من الحسن إلى السيئ.
غير أن المعنى اللغوي للفظة التغيير الذي منه التحويل والتبديل بالمغاير عامة (انظر اللسان مادة: غير) والظاهر من كلام بعض المفسرين أنها في المعنيين معا: "انظر تفسير ابن كثير 2/ 505. والتحرير والتنوير 13/ 102.
وقد علق سيد قطب على آية الرعد بقوله: "يبرز السياق حالة تغيير الله ما بالقوم إلى السوء لأنهم حسب المفهوم من الآية غيروا ما بأنفسهم إلى أسوأ فأراد الله لهم السوء ... ويبرز السياق هذا الجانب دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون السيئة قبل الحسنة قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم. انظر تفسير الظلال 5/ 78. والفكرة ذاتها بني عليها كتيب الأستاذ جودت سعيد "حتى يغيروا ما بأنفسهم" الذي اتخذ من آية الرعد محورا لمباحثه وفصوله.
9 - إن الإنسان يفعل سببا معينا ينتج عنه خلق من الله، كخلق الإنسان وثمرة الزرع ... انظر حتى يغيروا ما بأنفسهم 90.
10 - يونس 98.
11 - الأعراف 95.
12 - انظر مجالس للتذكير 195و 196.
¥