أولا - سنن التأسيس والبناء:
إن أول ما يؤسس ويبني في هذا المضمار هو الجانب التصوري لدى الإنسان المسلم ومن ذلك:
أ- سنة الابتلاء والامتحان، إظهارا لصدق إيمانه وإخلاص عمله.
جاء في تفسير قوله تعالى (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (9).
إن من الناس من يقول آمنا وللإيمان آثار، ثم يحسبون أن الله يتركهم وما يقولون ويعاملهم سبحانه – وهو الحكم العدل- بما يظنون في أنفسهم قبل ان يبتليهم أيهم أحسن عملا، حتى تظهر أنفسهم لأنفسهم، ويعلموا هل هم مؤمنون حقا، أم هذه دعوى سولتها النفس وغرت بها الأماني ... إن للعقائد الراسخة آثارا تظهر في العزائم والأعمال، تأثيرا في الأفكار والإرادات ... وإن للإيمان تكاليف شاقة وفرائض صعبة الأداء، إلا على الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ... وإن امتحان الله للمؤمنين سنة من سننه يميز بها الصادقين من المنافقين قرنا بعد قرن إلى أن تنقضي الدنيا" (10).
وجاء في السياق نفسه في تفسير الآتين: "إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر ... فلا يكفي أن يقول الناس آمنا، فهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة ويثبتوا عليها ... هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه" (11). ومن ثم فإن الطاقة الإيمانية ضرورية لمواجهة هذه التكاليف، ولإظهار طبيعة السنن الإلهية في ارتباط الأسباب بالمسببات قال الله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تالمون فإنهم يالمون كما تالمون وترجون من الله ما لايرجون) (12). جاء في تفسيرها "إن الذي يلتزم الدفاع في الحرب تضعف نفسه وتهن عزيمته، والذي يوطن نفسه على المواجهة تعلو همته وتشتد عزيمته ... وهذا التوحيد في الإيمان، والوعد من الرحمان هما مدعاة الأمل والرجاء ومنفاة اليأس والقنوط، والرجاء يبعث القوة ويضاعف العزيمة فيدأب صاحبه على عمله بالصبر والثبات، واليأس يميت الهمة ويضعف العزيمة فيغلب على صاحبه الجزع والفتور" (13).
وهذا من السنن النفسية ذات الأثر النافذ في السلوك الفردي و الاجتماعي المبنية على صدق الإيمان وإخلاص العمل.
ب- سنن التدافع الحضاري:
ويمكن تسميتها سنن تنازع البقاء (14): وهي سنة اجتماعية تحكم سائر المجتمعات البشرية وتصطبغ بها كل مظاهر الحياة، الفردية والجماعية الإنسانية والحيوانية وغياب هذا المعنى وأثره الفاعل في النفس البشرية يحدث فيها الاعتقاد بالجبر والإرجاء وتعطيل الطاقات وهذه المعاني أبرزتها تفاسير الفترة انطلاقا من آيات قرآنية كريمة نصت على هذه السنن نصا صريحا، وفي سياق أمثلة عملية من أحداث التاريخ البشري تأكيدا لأهميتها في مثل قوله تعالى: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) (15). جاء في تفسير المنار "لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الصلاح فيها، لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض ... حتى يكون لهم السلطان وحدهم فتفسد الأرض بفسادهم فكان من فضل الله على العالمين أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين ... وقد سمي هذا دفعا –على قراءة الجمهور- باعتبار أنه منه سبحانه إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري وسماه دفاعا في قراءة نافع (16) باعتبار أن كلا من أهل الحق المصلحين، وأهل الباطل المفسدين، يقاوم الأخر ويقاتله" (17).
وقد تأخذ هذه السنة شكلا آخر في التدافع، حيث يسلط الله الظالمين بعضهم على بعض، فتتاح الفرصة بنمو الخير وازدياد قوة المستضعفين (18). فالآية المفسرة قابلت الدفع بالناس عامة ولم تقابله بالمسلمين والكافرين فقط، إظهارا لعموم هذه السنة. وإن من وراء كشف القرآن الكريم عن هذه السنة، وإظهارطبيعة التعارض في المصالح والاتجاهات، فسح المجال: "للطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع فتنفض عنها الكسل والخمول وتستجيش ما فيها من مكنونات مدخورة (19). لمقاومة الشر ومدافعة الباطل مهما كانت قوته وسطوة أهله قال الله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) (20). فحاصل معنى النهي عن الغرور في الآية يعني "أن تقلب
¥