قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنَّهُ الْقِيَاسُ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفٌ لَهُ، وَبَقَاءُ الْوَصْفِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً عَلَى وَهْمٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِجِوَازِ فَتْوَى الْمُقَلِّدِ، حِكَايَةً عَنْ مُجْتَهِدٍ، لَيْسَ عَلَى إطلاقه.
وذهب جماعة إلى أنه يجز لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ، مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ.
وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْقَفَّالِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضُهُمْ نَسَبَهُ إِلَى الرَّازِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ الْمَنْعُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِهِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا بِمُجْتَهِدِينَ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ1.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ، يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ أَوِ اسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوِيَتِهِمْ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ، ثم حكى لمقلد قَوْلَهُ، فَإِنَّهُ يُكتفى بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا، هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إِلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أزواجهن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ2، وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ مَرَاجَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ، مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَفِي كَلَامِ هَذَا الْمُحَقِّقِ ما لا يخف عَلَى الْفَطِنِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ إِلَخْ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ مَنْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَادِثَةُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ من يعرف ما شرعه الله في