يُشَابِهُ ذَلِكَ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ فقد أصاب، ومن أخطأ فقيل: يفكر.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً، كَمَا فِي تَرَكُّبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، قَالُوا: فَلَيْسَ الْمُخْطِئُ فِيهَا بِآثِمٍ، وَلَا الْمُصِيبُ فِيهَا بِمَأْجُورٍ؛ إِذْ هَذِهِ وَمَا يُشَابِهُهَا يَجْرِي مَجْرَى الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ "مَكَّةَ"* أَكْبَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ" أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْعَنْبَرِيِّ1 أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ، وحُكي أَيْضًا عَنِ الْجَاحِظِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَمَّا "الْجَاحِظُ"** فَجَعَلَ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ الْعَنْبَرِيُّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدِ اسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ، وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ؛ فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ، فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ "فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمُ الْمِلَّةُ"***، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصوبون، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ صَوَّبَ الْكَافِرِينَ المجتهدين دون الراكبين البدعة.