لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَيْسِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِينَ؛ لِأَنَّ التَّفَاسِيرَ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَدْ دُوِّنَتْ، وَصَارَتْ فِي الْكَثْرَةِ إلى حد لا يكن حَصْرُهُ، وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ قَدْ دُوِّنَتْ، وَتَكَلَّمَ "الْأَئِمَّةُ"* عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّصْحِيحِ، وَالتَّجْرِيحِ بِمَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ يَرْحَلُ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَالِاجْتِهَادُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَعَقْلٌ سَوِيٌّ.
وَإِذَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ وَجَدْتَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ إِنَّمَا أُتوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَكَفُوا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَاشْتَغَلُوا بِغَيْرِ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَكَمُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِمَا وَقَعُوا فِيهِ، "وَاسْتَصْعَبُوا"** مَا سَهَّلَهُ الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلب أَنْوَاعَ عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ شَافِعِيَّةً، فَهَا نَحْنُ "نُوَضِّحُ"*** لَكَ مَنْ وُجِدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ، مِمَّنْ لَا يُخَالِفُ مُخَالِفٌ فِي أَنَّهُ جَمَعَ أَضْعَافَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ1، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيِّ2، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة