عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
ثُمَّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَّفِقِينَ، فَرَجَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُطْلَقِ، أَيْ: دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، أَيْ: دَالًّا عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ اللَّاحِقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ1،وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ2، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، مَعَ كَوْنِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
فَذَهَبَ كَافَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّقْيِيدِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى التَّقْيِيدِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، وَلَا يُدعى وُجُوبُ هَذَا الْقِيَاسِ، بَلْ يُدَّعَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ثَبَتَ التَّقْيِيدُ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ، قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا أَفْسَدْنَا الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ -يَعْنِي مَذْهَبَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ- فَضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ: أَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَأَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ رَقَبَةً كَيْفَ كَانَتْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُنَاقِضًا لِلْآخَرِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَقْيِيدَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا.
وَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا قُيِّدَتْ بِالْعَدَالَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُطْلِقَتْ فِي سَائِرِ الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا ههنا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتَنَاقَضُ لَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ كُلُّ عَامٍّ وَمُطْلَقٍ بِكُلِّ خَاصٍّ وَمُقَيَّدٍ.
وَعَنِ الثَّانِي: أنَّا إِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي -يَعْنِي مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ- فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ أن العمل به دفع