وقد حَكَى ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ" الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَالَغَ فَصَحَّحَ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ "الْإِبْهَامِ"*، وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُخْرَجِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَنَعْمَلُ بِهِ إِلَى أَنْ "نَعْلَمَ"** بِالْقَرِينَةِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعاَرِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِضْرَابِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَالْعَمَلِ بِالْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ رَدَّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِإِحَالَةِ هَذَا مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَأَخُّرِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُبَيَّنٍ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ فَيَكُونُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْكُلِّ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ اللَّفْظِ إِلَى كُلِّ الْأَقْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِمُخَصِّصٍ لَا يَقْتَضِي إِهْمَالَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ، وَلَا يَرْفَعُ التَّعَبُّدَ بِهِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الْبَعْضِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْكُلِّ لَلَزِمَ الدَّوْرُ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَيْضًا الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ مَوْجُودٌ، وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْمُعَارِضُ مَفْقُودٌ فَوُجِدَ الْمُقْتَضِي وَعُدِمَ الْمَانِعُ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ.
وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ عموم إلا وقد خص، وأن لَا يُوجَدُ عَامٌّ غَيْرُ مُخَصَّصٍ، فَلَوْ قُلْنَا إنه غير حجة فما بَقِيَ لَلَزِمَ إِبْطَالُ كُلِّ عُمُومٍ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما ثبتت بِعُمُومَاتٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا بَقِيَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، والحنفية، والجبائي،