...
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْحَاكِمِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْحَاكِمِ الشَّرْعَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ.
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ1: لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ سُبْحَانَهُ حُكْمٌ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَحْرُمُ كُفْرٌ وَلَا يَجِبُ إِيمَانٌ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ2: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ بِمَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ فِيهِ صِفَةَ حُسْنٍ، أَوْ قُبْحٍ لِذَاتِهِ، أَوْ لِصِفَتِهِ، أَوْ لِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالُوا: وَالشَّرْعُ كَاشِفٌ عَمَّا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ قَبْلَ وُرُودِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي شَيْئَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مُلَاءَمَةُ الْغَرَضِ لِلطَّبْعِ وَمُنَافَرَتُهُ لَهُ، فَالْمُوَافِقُ حَسَنٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَالْمُنَافِرُ قبيح عنده.
الثاني: صفة الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، فَصِفَاتُ الْكَمَالِ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَصِفَاتُ النَّقْصِ قَبِيحَةٌ عِنْدَهُ.
وَمَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ -كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا كَانَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ- هُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ، وَالذَّمِّ، وَالْعِقَابِ، آجِلًا وَعَاجِلًا.
فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِكَوْنِ الْفِعْلِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ فاعله الذم.
قالوا: وذلك الوجه قيد يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهِ، وَقَدْ لَا يَسْتَقِلُّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْعَقْلُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُسْنَ الصِّدْقِ النَّافِعِ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَيَعْلَمُ نَظَرًا حُسْنَ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ النَّافِعِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقُبْحِ صَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ علمنا الحسن والقبح فيهما.