...
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ
ذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَا حَكَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِمَّا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالدَّنَاءَاتِ وَسَائِرِ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُمْ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَغَائِرُ الْخِسَّةِ، كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وإنما اختلفوا في الدليل عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِمَّا ذُكِرَ، هَلْ هُوَ الشَّرْعُ أَوِ الْعَقْلُ؟
فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ؛ لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عَنِ الِاتِّبَاعِ، فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"1 عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ، قَالَ: وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ2: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِهَا السَّمْعُ فَقَطْ، وَرُوِيَ عَنِ القاضي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهَا الْإِجْمَاعُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ رَدَدْنَا ذَلِكَ إِلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُهَا، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، والغزالي، وإلكيا3 وابن برهان4.