وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلا في ذات أخرى: كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة.
فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن إجتماعهما في ذات واحدة كالثلج، وكذلك الكلام والقعود، فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدا متكلما في وقت واحد، وهكذا فالنسبة بين (جهاد الأعداء. ومواجهة تآمرهم) وبين (الدعوة إلى الفروع والتمسك بها وتعليم الناس) من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلا أن يكون باردا كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلا أن يكون متكلما، والتمرة السوداء يجوز عقلا أن يكون مذاقها حلوا، فكذلك المتمسك بالفروع يجوز عقلا أن يواجه أعداءه ويجاهدهم إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على أوامر الله واجتناب مناهيه مشتغلا بجهاد أعدائه بكل ما في طاقته كما لا يخفي، وكما عرفه التاريخ لنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنة كقوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (?) وقوله عز وجل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (?) وغير ذلك من النصوص فإن النسبة بين التمسك بالشعائر الإسلامية وبين تنزيل النصر من الله جل وعلا كالنسبة بين الملزوم ولازمه، لأن التمسك بالدين هو ملزوم النصر، بمعنى أن يلزم عليه الانتصار كما صرحت الآيات. وهؤلاء المخالفون أظهروا الناس أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين، وهؤلاء بدورهم أذعنوا لهم لسذاجتهم وجهلهم، وأنتج ذلك نفرة في قلويهم بمجرد سماع من يتكلم في الفروع إيهاما له بأنه يبطل بذلك الجهاد. هذا وإن من البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
والدولة المسلمة لن تقوم إلا على أكتاف أولي العزم الذين يلتزمون بكافة