وَصَحَّ فِي الدَّلِيل فهم يقبلُونَ ذَلِك مِنْك قبولا فطريا ويأخذونه أخاذ خلقيا لِأَن فطرتهم لم تَتَغَيَّر بالتقليد وَلَا تكدرت بالممارسة لعلم الرَّأْي مَا لم يتسلط عَلَيْهِ شَيْطَان من شياطين الْإِنْس قد مارس علم الرَّأْي واعتقد أَنه الْحق وَأَن غَيره الْبَاطِل وَأَنه لَا سَبِيل للعامة إِلَى الشَّرِيعَة إِلَّا بتقليد من هُوَ مقلد لَهُ وَاتِّبَاع من يتبعهُ فَإِنَّهُ إِذا تسلط على الْعَامَّة مثل هَذَا وسوس لَهُم كَمَا يوسوس الشَّيْطَان وَبَالغ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ يعْتَقد ذَلِك من الدّين وَيقطع بِأَنَّهُ فِي فعله دَاع من دعاة الْحق وهاد من هداة الشَّرْع وَأَن غَيره على ضَلَالَة
وَهَذَا وَأَمْثَاله هم أَشد النَّاس على من يُرِيد إرشادهم إِلَى الْحق ودفعهم عَن الْبدع لِأَن طبائعهم قد تكدرت وفطرهم قد تَغَيَّرت وَبَلغت فِي الكثافة والغلظة والعجرفة إِلَى حد عَظِيم لَا تُؤثر فِيهِ الرقى وَلَا تبلغ إِلَيْهِ المواعظ فَلم تبْق عِنْدهم سَلامَة طبائع الْعَامَّة حَتَّى ينقادوا إِلَى الْحق بِسُرْعَة وَلَا قد بلغُوا إِلَى مَا بلغ إِلَيْهِ الْخَاصَّة من رياضة أفهامهم وتلطيف طبائعهم بممارسة الْعُلُوم الَّتِي تتعقل بهَا الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَيعرف بهَا الصَّوَاب ويتميز بهَا الْحق حَتَّى صَارُوا إِذا أَرَادوا النّظر فِي مسئلة من الْمسَائِل أمكنهم الْوُقُوف على الْحق والعثور على الصَّوَاب
وَبِالْجُمْلَةِ فالخاصة إِذا بقى فيهم شَيْء من العصبية كَانَ إرجاعهم إِلَى الْإِنْصَاف متيسر غير متعسر بإيراد الدَّلِيل الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة لديهم فَإِنَّهُم إِذا سمعُوا الدَّلِيل عرفُوا الْحق وَإِذا حاولوا وكابروا فَلَيْسَ ذَلِك عَن صميم اعْتِقَاد وَلَا عَن خلوص نِيَّة
فرياضة الْخَاصَّة بإيراد الْأَدِلَّة عَلَيْهِم وَإِقَامَة حجج الله وإيضاح براهينه
وَذَلِكَ يَكْفِي فَإِنَّهُم لما قد عرفوه من عُلُوم الِاجْتِهَاد ومارسوه من الدقائق لَا يخفى عَلَيْهِم الصَّوَاب وَلَا يلتبس عَلَيْهِم الرَّاجِح بالمرجوح وَالصَّحِيح بالسقيم وَالْقَوِي بالضعيف والخالص بالمغشوش
ورياضة الْعَامَّة بإرشادهم إِلَى التَّعَلُّم ثمَّ بذل النَّفس لتعليمهم مَا هُوَ الْحق فِي اعْتِقَاد ذَلِك الْمعلم بعد أَن صَار دَاعيا من دعاة الْحق ومرشدا من مرشدي