شَيْئًا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ مُقَامٍ لَاِتَّخَذْنَا لَهَا أَثَاثًا.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ: أَلَا تُوصِي؟ قَالَ: بِمَاذَا أُوصِي وَاَللَّهِ مَا لَنَا شَيْءٌ، وَلَا لَنَا عِنْدَ أَحَدٍ شَيْءٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا شَيْءٌ. اُنْظُرْ إلَى هَذِهِ الرَّاحَةِ كَيْفَ تَعَجَّلَهَا وَإِلَى السَّلَامَةِ كَيْفَ صَارَ إلَيْهَا. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْفَقْرُ مِلْكٌ لَيْسَ فِيهِ مُحَاسَبَةٌ.
وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: أَلَا تَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا نُحِبُّ التَّكَاثُرَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ. وَقِيلَ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَك حِمَارًا؟ فَقَالَ: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَنِي خَادِمَ حِمَارٍ. وَقِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مَالُك؟ قَالَ: شَيْئَانِ: الرِّضَى عَنْ اللَّهِ، وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّك لَمِسْكِينٌ. فَقَالَ: كَيْفَ أَكُونُ مِسْكِينًا وَمَوْلَايَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: رُبَّ مَغْبُوطٍ بِمَسَرَّةٍ هِيَ دَاؤُهُ، وَمَرْحُومٍ مِنْ سَقَمٍ هُوَ شِفَاؤُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: النَّاسُ أَشْتَاتٌ وَلِكُلِّ جَمْعٍ شَتَاتٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الزُّهْدُ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَصِحَّةُ الْيَقِينِ بِنُورِ الدِّينِ، فَمَنْ صَحَّ يَقِينُهُ زَهِدَ فِي الثَّرَاءِ، وَمَنْ قَوِيَ دِينُهُ أَيْقَنَ بِالْجَزَاءِ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ صِحَّةُ نَفْسِك، وَسَلَامَةُ أَمْسِك، فَمُدَّةُ الْعُمُرِ قَلِيلَةٌ، وَصِحَّةُ النَّفْسِ مُسْتَحِيلَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
رُبَّ مَغْرُوسٍ يُعَاشُ بِهِ ... عَدِمَتْهُ عَيْنُ مُغْتَرِسِهْ
وَكَذَاك الدَّهْرُ مَأْتَمُهُ ... أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ مِنْ عُرْسِهْ
فَإِذَا رَضَتْ نَفْسُك مِنْ هَذِهِ الْحَالِ بِمَا وَصَفْت اعْتَضْت مِنْهَا ثَلَاثَ خِلَالٍ: إحْدَاهُنَّ: نُصْحُ نَفْسِك وَقَدْ اسْتَسْلَمَتْ إلَيْك، وَالنَّظَرُ لَهَا وَقَدْ اعْتَمَدَتْ عَلَيْك، فَإِنَّ غَاشَّ نَفْسِهِ مَغْبُونٌ، وَالْمُنْحَرِفَ عَنْهَا مَأْفُونٌ.
وَالثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِيمَا لَيْسَ لَك لِتُكْفَى تَكَلُّفَ طَلَبِهِ وَتَسْلَمَ مِنْ تَبِعَاتِ كَسْبِهِ. وَالثَّالِثَةُ: انْتِهَازُ الْفُرْصَةِ فِي مَالِك أَنْ تَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، وَأَنْ تُؤْتِيَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ، لِيَكُونَ لَك ذُخْرًا، وَلَا يَكُونَ عَلَيْك وِزْرًا. فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: أَلَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قَدِّمْ مَالَك فَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ مَالِهِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ذَبَحْنَا شَاةً فَتَصَدَّقْنَا بِهَا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَقِيَ إلَّا كَتِفُهَا. قَالَ: كُلُّهَا بَقِيَ إلَّا كَتِفَهَا» .