وَهَلْ ضَرْبَةُ الرُّومِيِّ جَاعِلَةٌ لَكُمْ ... أَبًا عَنْ كُلَيْبٍ أَوْ أَخًا مِثْلَ دَارِمِ
فَشَاعَ حَدِيثُ الْفَرَزْدَقِ بِهَذَا حَتَّى حُكِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ أَتَى بِأَسْرَى مِنْ الرُّومِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَكَانَ عِنْدَهُ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ فَقَالَ لَهُ: اضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْعِلْجِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْت مَا اُبْتُلِيَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ فَعُيِّرَ بِهِ قَوْمٌ إلَى الْيَوْمِ.
فَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت تَشْرِيفَك وَقَدْ أَعْفَيْتُك. وَكَانَ أَبُو الْهَوْلِ الشَّاعِرُ حَاضِرًا فَقَالَ:
جَزِعْت مِنْ الرُّومِيِّ وَهُوَ مُقَيَّدٌ ... فَكَيْفَ وَلَوْ لَاقَيْتَهُ وَهُوَ مُطْلَقُ
دَعَاك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَتْلِهِ ... فَكَادَ شَبِيبٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْرَقُ
تَنَحَّ شَبِيبًا عَنْ قِرَاعِ كَتِيبَةٍ ... وَادْنُ شَبِيبًا مِنْ كَلَامٍ يُلَفَّقُ
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَزْدَقِ إنْ صَحَّ مِنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَتَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ اتِّفَاقِ الْخَاطِرَيْنِ.
وَلِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: آيَةُ الْعَقْلِ سُرْعَةُ الْفَهْمِ، وَغَايَتُهُ إصَابَةُ الْوَهْمِ، وَلَيْسَ لِمَنْ مُنِحَ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةُ الْخَاطِرِ عَجْزٌ عَنْ جَوَابٍ وَإِنْ أُعْضِلَ، كَمَا قِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ.
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَيْنَ تَذْهَبُ الْأَرْوَاحُ إذَا فَارَقَتْ الْأَجْسَادَ؟ قَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ نَارُ الْمَصَابِيحِ عِنْدَ فَنَاءِ الْأَدْهَانِ؟ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ جَوَابَا إسْكَاتٍ تَضَمَّنَا دَلِيلَيْ إذْعَانٍ وَحُجَّتَيْ قَهْرٍ.
وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ وَإِنْ كَانَ مُسْكِتًا مَا حُكِيَ عَنْ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: أَلَسْت تَقُولُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَك إلَّا مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ فَإِنَّهُ إنْ يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ تَسْلَمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا مَلْعُونُ إنَّ لِلَّهِ أَنْ يَخْتَبِرَ عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَبِرَ رَبَّهُ.
وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ أَمَدَّهُمْ بِوَحْيِهِ، وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ مِمَّنْ يَلْجَأُ إلَى خَاطِرِهِ وَيُعَوِّلُ عَلَى بَدِيهَتِهِ.
وَرَوَى قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ. قِيلَ: فَكَمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؟ قَالَ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِ. فَكَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ سَائِلِهِ إمَّا اخْتِبَارًا، وَإِمَّا اسْتِبْصَارًا فَصَدَرَ عَنْهُ