وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ بَعْدُ فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَةِ فِي التَّقْصِيرِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ اغْتِرَارًا بِالْأَمَلِ فِي إمْهَالِهِ، وَرَجَاءً لِتَلَافِي مَا أَسْلَفَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ، فَلَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى غَايَةٍ، وَلَا يُفْضِي بِهِ إلَى نِهَايَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ فِي ثَانِي حَالٍ، كَهُوَ فِي أَوَّلِ حَالٍ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ غَدًا، فَإِنَّهُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَدًا» .

وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ غَدًا. فَإِذًا يُفْضِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى الْفَوْتِ مِنْ غَيْرِ دَرَكٍ، وَيُؤَدِّيهِ الرَّجَاءُ إلَى الْإِهْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَلَافٍ، فَيَصِيرُ الْأَمَلُ خَيْبَةً وَالرَّجَاءُ إيَاسًا. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَفَسَادُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» .

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ، إلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ بِالْبَصْرَةِ: أَلَكَ حَاجَةٌ بِبَغْدَادَ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَبْسُطَ أَمَلِي إلَى أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَغْدَادَ وَتَجِيءَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى أَمَلِهِ، وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غَرَّ مَنْ رَآهُ، وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ: دَخَلْت عَلَى الْمَأْمُونِ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ وَزِيرَهُ فَرَأَيْته قَائِمًا وَبِيَدِهِ رُقْعَةٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرَأْت مَا فِيهَا؟ فَقُلْت: هِيَ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَرَمَى بِهَا إلَيَّ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:

إنَّك فِي دَارٍ لَهَا مُدَّةٌ ... يُقْبَلُ فِيهَا عَمَلُ الْعَامِلِ

أَمَا تَرَى الْمَوْتَ مُحِيطًا بِهَا ... قَطَعَ فِيهَا أَمَلَ الْآمِلِ

تَعْجَلُ بِالذَّنْبِ لِمَا تَشْتَهِي ... وَتَأْمُلُ التَّوْبَةَ مِنْ قَابِلِ

وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْدَ ذَا بَغْتَةً ... مَا ذَاكَ فِعْلُ الْحَازِمِ الْعَاقِلِ

فَلَمَّا قَرَأْتهَا قَالَ الْمَأْمُونُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا مِنْ أَحْكَمِ شَعْرٍ قَرَأْته. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ: نَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ، وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: زَائِدُ الْإِمْهَالِ رَائِدُ الْإِهْمَالِ.

وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِيفَاءِ، وَزُهْدًا فِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015