يَتَوَسَّمُهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ مُكِدٍّ وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجِدٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ ذَكِيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّيَادَةِ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ وَمَنْ يُرَدِّدُ أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ.
وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنْ الْمُسْتَمِعِ فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَك إذَا حَدَّثْتَهُمْ يَا مُوسَى، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَك وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا تَحْشُو فِي وِعَائِك.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: خَيْرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُقِلُّ وَلَا يُمِلُّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ عِلْمٍ كَثُرَ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ ازْدَادَ الْقَلْبُ بِهِ عَمًى. وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَمْعُ الْآذَانِ، إذَا قَوِيَ فَهْمُ الْقُلُوبِ فِي الْأَبْدَانِ.
وَرُبَّمَا كَانَ لِبَعْضِ السَّلَاطِينِ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَضِيلَةِ نَفْسِهِ، وَكَرَمِ طَبْعِهِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً فِي الِانْبِسَاطِ عِنْدَهُ، وَالْإِدْلَالِ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِسُلْطَانِهِ وَعُلُوِّ يَدِهِ.
فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالْإِعْظَامِ، وَلِلْعَالِمِ حَقَّ الْقَبُولِ وَالْإِكْرَامِ. ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَهُ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِدْعَاءِ، وَلَا يَزِيدَهُ عَلَى قَدْرِ الِاكْتِفَاءِ، فَرُبَّمَا أَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إظْهَارَ عِلْمِهِ لِلسُّلْطَانِ فَأَكْثَرَهُ فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَلَلٍ وَمُفْضِيًا إلَى بُعْدِهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ مُتَقَسِّمُ الْأَفْكَارِ مُسْتَوْعِبُ الزَّمَانِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعِلْمِ فَرَاغُ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ وَلَا صَبْرُ الْمُنْفَرِدِينَ بِهِ.
وَقَدْ حَكَى الْأَصْمَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَالَ لِي الرَّشِيدُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْقَلُ مِنْك لَا تُعَلِّمْنَا فِي مَلَاءٍ، وَلَا تُسْرِعْ إلَى تَذْكِيرِنَا فِي خَلَاءٍ، وَاتْرُكْنَا حَتَّى نَبْتَدِئَك بِالسُّؤَالِ فَإِذَا بَلَغْت مِنْ الْجَوَابِ حَدَّ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَزِدْ إلَّا أَنْ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ مِنْك، وَانْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ فِي التَّأْدِيبِ، وَأَنْصَفُ فِي التَّعْلِيمِ، وَبَلِّغْ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ غَايَةَ التَّقْوِيمِ. وَلْيَخْرُجْ تَعْلِيمُهُ مَخْرَجَ الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُحَاضَرَةِ لَا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ وَالْإِفَادَةِ؛ لِأَنَّ لِتَأْخِيرِ التَّعَلُّمِ خَجْلَةَ تَقْصِيرٍ يُجَلُّ السُّلْطَانُ عَنْهَا، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ زَلَلٌ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ وَعَرَّضَ بِاسْتِدْرَاكِ زَلَلِهِ، وَإِصْلَاحِ خَلَلِهِ.
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: كَمْ عَطَاؤُك؟ قَالَ: أَلْفَيْنِ. قَالَ: لَحَنْتَ. قَالَ لَمَّا تَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْإِعْرَابَ كَرِهْت أَنْ أُعْرِبَ كَلَامِي عَلَيْهِ.