لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ حَقَّهُ، وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ، وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ يَرَى أَرْضًا، وَلَا يَعْرِف طُولًا وَلَا عَرْضًا. وَقِيلَ لِحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ: أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ؟ فَقَالَ: اسْتَفْرَغْنَا فِيهَا الْمَجْهُودَ، فَلَمْ نَبْلُغْ مِنْهَا الْمَحْدُودَ، فَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا بَدَا عِلْمُ
وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ أَظُنُّهُمَا لَهُ:
يَا نَفْسُ خُوضِي بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي ... فَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ
لَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ ... إلَّا إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الِاهْتِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلَاهَا، وَأَفْضَلِهَا. وَأَوْلَى الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ يَرْشُدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ. إذْ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ» . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِهَا قَدْ لَا تَكُونُ عِبَادَةً، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» .
وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَلَا عَلَى الْكَافَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ