تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ مَنْ جَهِلَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ وَمُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ ... وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ دَعَاهُ تَرْكُ الْحَيَاءِ إلَى أَنْ يَعْمَلَ مَا يَشَاءُ لَا يَرْدَعُهُ عَنْهُ رَادِعٌ. فَلِيَسْتَحِي الْمَرْءُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَرْدَعُهُ. وَسَمِعْت مَنْ يَحْكِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إذَا عُرِضَتْ عَلَيْك أَفْعَالُك الَّتِي هَمَمْت بِفِعْلِهَا فَلَمْ تَسْتَحِ مِنْهَا لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا فَاصْنَعْ مَا شِئْت مِنْهَا.
فَجَعَلَ الْحَيَاءَ حَكَمًا عَلَى أَفْعَالِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَسَنٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْرَجَ الذَّمِّ لَا مَخْرَجَ الْمَدْحِ. لَكِنْ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ بِمَا يُضَاهِي الْقَوْلَ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَحْبَبْت أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك فَأْتِهِ، وَمَا كَرِهْت أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك فَاجْتَنِبْهُ» . وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ فِيهِ وَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَصَحَّ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا مُتَّفِقَةَ الْمَعَانِي بَلْ اخْتِلَافُ مَعَانِيهَا أَدْخَلُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَبْلَغُ فِي الْفَصَاحَةِ إذَا لَمْ يُضَادَّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدِهَا: حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: حَيَاؤُهُ مِنْ النَّاسِ.
وَالثَّالِثِ: حَيَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالْكَفِّ عَنْ زَوَاجِرِهِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ