الْعَقْلِ مُضِرٌّ بِالْجَسَدِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَفَاك مِنْ عَقْلِك مَا دَلَّك عَلَى سَبِيلِ رُشْدِك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: قَلِيلٌ يَكْفِي خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُطْغِي. وَقَالَ آخَرُونَ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ: زِيَادَةُ الْعَقْلِ فَضِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْتَسَبَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ زِيَادَةُ الْفَضَائِلِ الْمَحْمُودَةِ نَقْصًا مَذْمُومًا؛ لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ لَا يُسَمَّى فَضِيلَةً كَالشُّجَاعِ إذَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشَّجَاعَةِ نُسِبَ إلَى التَّهَوُّرِ، وَالسَّخِيُّ إذَا زَادَ عَلَى حَدِّ السَّخَاءِ نُسِبَ إلَى التَّبْذِيرِ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَحُسْنُ إصَابَةٍ بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَا يَكُونُ، وَذَلِكَ فَضِيلَةٌ لَا نَقْصٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ مَأْلُوفٌ» .

وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أَيْ بِحَسَبِ عَقْلِهِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ أَغْلَبَ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ، كَانَ حَتْفُهُ فِي أَغْلَبِ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ إذَا كَثُرَ رَخُصَ إلَّا الْعَقْلَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ غَلَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ الْعَاقِلَ مَنْ عَقْلُهُ فِي إرْشَادٍ، وَمَنْ رَأْيُهُ فِي إمْدَادٍ، فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ، وَفِعْلُهُ حَمِيدٌ، وَالْجَاهِلُ مَنْ جَهْلُهُ فِي إغْوَاءٍ، وَمَنْ هَوَاهُ فِي إغْرَاءٍ، فَقَوْلُهُ سَقِيمٌ، وَفِعْلُهُ ذَمِيمٌ، وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِيهِ.

مَنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ عَقْلَهُ ... أَهْلَكَهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ

فَأَمَّا الدَّهَاءُ وَالْمَكْرُ فَهُوَ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ إلَى الشَّرِّ وَلَوْ صَرَفَهُ إلَى الْخَيْرِ لَكَانَ مَحْمُودًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ، وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ. وَقَالَ عُمَرُ: لَسْتُ بِالْخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015