فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ. إنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ بَنَوْا مَشِيدًا، وَأَمَّلُوا بَعِيدًا، وَجَمَعُوا كَثِيرًا فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَجَمْعُهُمْ ثُبُورًا، وَمَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا.

وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إنَّ الدُّنْيَا غَرَّتْ أَقْوَامًا فَعَمِلُوا فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَاجَلَهُمْ الْمَوْتُ فَخَلَّفُوا مَالَهُمْ لِمَنْ لَا يَحْمَدُهُمْ وَصَارُوا لِمَنْ لَا يَعْذُرْهُمْ، وَقَدْ خُلِقْنَا بَعْدَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ لِلَّذِي كَرِهْنَاهُ مِنْهُمْ فَنَجْتَنِبَهُ، وَاَلَّذِي غَبَطْنَاهُمْ بِهِ فَنَسْتَعْمِلَهُ. وَمَرَّ بَعْضُ الزُّهَّادِ بِبَابِ مَلِكٍ فَقَالَ: بَابٌ جَدِيدٌ، وَمَوْتٌ عَتِيدٌ، وَسَفَرٌ بَعِيدٌ. وَمَرَّ بَعْضُ الزُّهَّادِ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مِسْكِينٌ سَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ جُبَّةً. وَمَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَعْطَاهُ جُبَّةً، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ {إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] .

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، وَزَهِدَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

وَقَالَ آخَرُ: بِطُولِ الْأَمَلِ تَقْسُو الْقُلُوبُ، وَبِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ تَقِلُّ الذُّنُوبُ. وَقَالَ آخَرُ: إيَّاكَ وَالْمُنَى فَإِنَّهَا مِنْ بِضَائِعِ النَّوْكَى، وَتُثَبِّطُ عَنْ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَقَالَ آخَرُ: قَصِّرْ أَمَلَك فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ، وَأَحْسِنْ سِيرَتَك فَالْبِرُّ يَسِيرٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

نَسِيرُ إلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ رَوَاحِلُ

وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِي بَاطِلُ

وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ نَازِلُ

تَرَحَّلْ عَنْ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنْ التُّقَى ... فَعُمْرُك أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلَائِلُ

وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:

فَاعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّك مَيِّتُ ... وَاكْدَحْ لِنَفْسِك أَيُّهَا الْإِنْسَانْ

فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إذْ مَضَى ... وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانْ

وَنَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ. فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ لَهُ:

أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْت تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015